تفسير نشيد الانشاد - الكتاب المقدس - العهد القديم -  سفر نشيد الأنشاد -  الفصل / الإصحاح الأول (١)

اقرأ النص اولا - ثم يليه الشرح 




 النص


الكتاب المقدس - العهد القديم
سفر نشيد الأنشاد

الفصل / الإصحاح الأول

 

1 نشيد الأنشاد الذي لسليمان

2 ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر

3 لرائحة أدهانك الطيبة. اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى

4 اجذبني وراءك فنجري. أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك

5 أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان

6 لا تنظرن إلي لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره

7 أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى ، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك

8 إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة

9 لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون

10 ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد

11 نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة

12 ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته

13 صرة المر حبيبي لي. بين ثديي يبيت

14 طاقة فاغية حبيبي لي في كروم عين جدي

15 ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة. عيناك حمامتان

16 ها أنت جميل يا حبيبي وحلو، وسريرنا أخضر

17 جوائز بيتنا أرز، وروافدنا سرو





الشرح


يعتبر اليهود نشيد الانشاد (أو قدس الاقداس) نشيد رمزي يعكس علاقة الحب المتبادل بين الله و شعبه إسرائيل ، 

تسلمت الكنيسة المسيحية من يدي الكنيسة اليهودية هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم، وقد احتل هذا السفر مركزًا خاصًا بين الأسفار لما يحمله من أسلوب رمزي يعلن عن الحب المتبادل بين الله وشعبه ((المسيح  (العريس) و الكنيسة ("عروسه")) ، أو بين الله والنفس البشرية.






في هذا الفصل / الإصحاح الأول :

+  الآيات من ٢ إلي ٧ : العروس هي المتكلمة ... 

(تتحدث عن عريسها و لعريسها في الآيات ٢ ، ٣ و ٤ 

و تتحدث عن نفسها مع صديقاتها في الآيات ٥ و ٦ 

ثم ترجع لتكلم حبيبها في الآية ٧)


+ الآيات من ٨ إلي ١١ : العريس هو المتكلم ...

(و هو يتحدث لعروسته)




(ملحوظة : نسخ الكتاب المقدس التي كتبت فوق الايات من هو المتكلم وضحت ان المتكلم هنا في :  الاصحاح الأول من سفر نشيد الانشاد ، عدد ٨ ، هم الاصدقاء و ليس العريس ... لذا قد يختلف الشرح ، ندعوك للبحث)





+ الآيات من ١٢ إلي ١٤ : العروس هي المتكلمة ... 

(و هي تتحدث عن عريسها)


+ الآية ١٥:  العريس هو المتكلم ...

(و هو يتحدث لعروسه و يغازلها)


+ الآيات ١٦ و ١٧ : العروس هي المتكلمة ... 

(و هي تتحدث لعريسها و تغازله و تتكلم عن بيتهم)




(ملحوظة : نسخ الكتاب المقدس التي كتبت فوق الايات من هو المتكلم وضحت ان المتكلم هنا في :  الاصحاح الأول من سفر نشيد الانشاد ، عدد ١٧ ، هو العريس و ليست العروس ... لذا قد يختلف الشرح ، ندعوك للبحث)










1 نشيد الأنشاد الذي لسليمان

هنا يعرفنا الكتاب المقدس اسم كاتب هذا السفر و هو "سليمان"






2 ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر

العروس التي تتكلم هنا هي النفس البشرية (أو الكنيسة) التي تناجي حبيبها الله (يسوع المسيح) و تعبر له عن علاقة الحب تجاهه و هي كعلاقة الحب بين إمرأة و حبيبها ، أو بين زوجة و زوجها. 

حب النفس البشرية لله (أو حب الكنيسة للمسيح) هو حب عروس لعريسها.


* * *

ليقبلني بقبلات فمه =  

النفس البشرية (أو الكنيسة) تطلب أن تتلذذ بمحبة الله (يسوع المسيح) ، تريد أن تتذوق حبه ، لذلك تطلب قائلة ليقبلني. ولاحظ أنها لا تشبع من قبلة واحدة بل تطلب الكثير = ليقبلني بقبلات فمه.


لقد تمنت العروس ان تتمتع بقبلات عريسها، وقد يحسب البعض ان ذلك تصلف منها وجسارة غير لائقة، ولكن هذا نابع  عن عدم أذراكهم بعلم العروس (النفس البشرية أو الكنيسة) بطهارة عريسها (يسوع المسيح)  ونقاوته غير المحدودة، وأنه قدوس بلا شر ولا دنس ، فهي كانت تعرف و تثق اتها لا تخشى ان تتكئ على صدره، وفي حضنه ، كما انها تعرف محبة العريس "الفائقة "، ان "المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج. 

المؤمن الحقيقي الذي ذاق حلاوة النعمة و حياة الشركة مع الله يريد ان يتمتع في كل حين بكل محبة الله (العريس). 


ان القبلة هي أيضا علامة المصالحة، وهوذا العروس (النفس البشرية أو الكنيسة) تطلب ان يقبلها حبيبها (يسوع المسيح) ، فهي أدركت أنه تبارك اسمه هو "الوسيط المصالح" (يسوع المسيح).


* * *

لأن حبك أطيب من الخمر=

حب الله (يسوع المسيح) يسكر النفس فتنسى كل ما هو أرضي لتهيم في حب الله وحده. 


الخمر تشير للفرح. وإذا نظرنا إلى الخمر (التي هي عصير الكرمة) كإشارة إلى أفراح الأرض ومباهجها فان محبة المسيح تفوق كل الأفراح والمسرات الأرضية. 


ليتنا نمتحن نفوسنا لنرى هل نحن نرتشف في كل حين من منهل محبة المسيح العذب أم قد سكرت قلوبنا بمحبة العالم؟


حب يسوع المسيح قُدِّم على الصليب كسر فرح (إشعياء ٤ /  ١ - ٦). 

تماما مثل الخمر الذي كان يقدم مع الذبائح .

 

حب النفس البشرية  ليسوع المسيح هو حب عروس لعريسها.

يسهل على النفس تصور وتذوق حب المسيح ، فقط لننظر للصليب.

لكن تذوق حب الآب يحتاج إلى عمق أكبر، فخطايانا تعوق هذا التذوق . لذلك تطلب النفس هنا من عريسها أن يشفع لها بدمه لكي تتذوق محبة الآب الغافرة.


* * *


وهنا نلاحظ شيئا يدعو إلى التأمل، وهو ان العروس كانت تتكلم عن العريس بصيغة الغائب "ليقبلني (هو) بقبلات فمه" كما لو كان غير حاضر أمامها ولكنها تراه على الفور أمامها وتكلمه بصيغة المخاطب "لان حبك (أنت) أطيب من الخمر" "وفي هذا معنى ومغزى جميل، فأنها بمجرد ان أظهرت أشواقها إلى عريسها الغائب عنها، أظهر هو ذاته لها في الحال. أنه تبارك اسمه لا يمكن ان يبقى مدينا لمحبة المؤمن ولأشواقه إليه وحنينه لرؤيته "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي . . ان أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منـزلا"(يوحنا ١٤ / ٢١-٢٣).

 




3 لرائحة أدهانك الطيبة. اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى


لرائحة أدهانك الطيبة =

الدهن هو خليط من زيت وعطور وهو من أفضل التنعمات في أيام سليمان، وكان دهن المسحة يسكب على رأس رئيس الكهنة فينزل على لحيته (مزمور ١٣٣) . والمسيح ممسوح بالدهن من قِبَل الآب لخلاصنا ليصير رئيس كهنة يقدم ذبيحة نفسه عنا.

إما الزيت فهو رمز للروح القدس، زيت المسحة يشير للروح القدس.

والعطور ترمز للمسيح ذو الرائحة الزكية. 

وحين حل الروح القدس على المسيح رأس الكنيسة يوم عماده كان هذا لحساب العروس (الكنيسة) لتفوح منها رائحة المسيح.


* * *

اسمك دهن مهراق =

إشارة للحب الذي ظهر على الصليب. وهذا هو الأقرب لمعنى الآية.

فالمسيح سكب كمال حبه على الصليب، سكب نفسه .

و كلمة إسمك تشير أيضًا لجبروت المسيح وقوة دم صليبه التي غلبت الشيطان والخطية والموت، وما زالت تغلب فينا.

إسمك يا يسوع المسيح هو إذا إشارة لقوة دم الفداء، وباستحقاقات هذا الدم أرسل الروح القدس الذي فتح الأعين على المسيح وفدائه

ان اسم ربنا المجيد المبارك والحلو "يسوع" وكل الأسماء والألقاب الأخرى هي التي يلذ للمؤمن الحقيقي التغني بها والتحدث عنها، وكل حديث لا يدور حول هذا الاسم العجيب لا يشبع النفس.

وبهذا الاسم وعلى أساس عمله المبارك أرسل الآب المعزي الروح القدس الذي يعلمنا كل شيء والذي يأخذ مما للمسيح ويخبرنا "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم على شيء. . ." (يوحنا ١٤ / ٢٦).


بهذا الاسم وحده ، اسم يسوع المسيح ، نقترب إلى عرش النعمة ونطلب من الله أبينا كل أعوازنا  واحتياجاتنا روحية كانت أو زمنية "ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن " . . . "إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله" (يوحنا ١٤/ ١٣-١٤).


لقد كان اسمه قبل زمان النعمة كالدهن المحفوظ داخل القارورة المختومة، ولم يعرفه إلا القليلون ... 

أما الآن فشكرا له لأنه قد تنازل بملء نعمته الغنية وأعلن لنا اسمه المبارك وشخصه الحبيب وبموته فوق الصليب وسفك دمه الكريم أصبح اسمه دهنا مهراقا ، وقد أتى الروح القدس من السماء ليقود الخطاة المساكين إلى معرفته والتلذذ برائحة "الاسم الحسن" العطر. أنه (أي الروح القدس) يمجده إذ يأخذ مما له ويخبر خاصته أو بالحري عروسه بأمجاد ذاك الذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا"


* * * 


لذلك أحبتك العذارى =

إذ اشتمت البشرية رائحة اسم يسوع المسيح المهراق انجذبت إليه بقلوب عذراوية لا تُريد أن تنشغل بآخر غيره ، وانسابت أفكارها نحوه في عذراوية لا تُريد أن تفكر في اهتمامات الحياة أو إغراءاتها ، وانطلقت أحاسيسها وعواطفها وكل طاقاتها الداخلية نحوه... 


هذه الجاذبية التي خلقها الصليب في أعماقنا الداخلية جعلتنا نخرج كل ما في داخلنا كعذارى نطلب العريس وحده فلا نجري إليه وحدنا، بل نجتذب معنا كثيرين يجرون إليه بفرح .


هذا هو سرّ الصليب وفاعليته، إنه يحمل قوة الشهادة والجاذبية، وسرّ البهجة والفرح!


إذ تتمتع نفسي بك، وتكون أنت في داخلي خلال الصليب، وأصير أنا فيك، يتعرف الناس عليك خلالي ويطلبونك، حينئذ تمتلئ قلوبنا بهجة وفرحًا حتى السمائيون يفرحون أيضًا معنا!


أنجذب زكا العشار وراء السيد المسيح، فجمع الخطاة والعشارين ليلتقوا بالرب ويفرحوا به، وإذ جلست المرأة السامرية معه نادت أهل المدينة ليجالسوه وينعموا بحديثه الفعال.


هذا هو سرّ الكنيسة... قوة الصليب الجذابة، أما أن نسيت الكنيسة هذا الصليب واهتمت بطرق العالم فأنها لا تقدر أن تسابق العالم فيما يخصه، لكنها تغلبه بالحب خلال الصليب العامل في حياة أولادها.


بالصليب وحده تنجذب النفوس إلى الكنيسة خلال التوبة .





4 اجذبني وراءك فنجري. أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك


اجذبني وراءك فنجري =

ما أشد حاجة المؤمن الحقيقي إلي الله و خصوصا في هذه الأيام التي سادت فيها روح الفتور والهزال الروحي حتى بين المؤمنين الحقيقيين، فقصرت خطواتهم في المسير والركض وراء الرب.

ما أشد حاجة المسيحي الحقيقي إلى سكب قلبه أمام الرب والتوسل إليه بهذه الطلبة "اجذبني".


نحن لا نقدر أن نأتي إلى المسيح بقوتنا الذاتية "لا يقدر أحد أن يُقبل إلىّ إن لم يجتذبه الآب" (يوحنا ٦ / ٤٤).. هكذا لا نستطيع كمؤمنين أن نركض وراءه إن لم يجتذبنا هو.. لقد عرفت العروس حقيقة ذاتها انها بدونه لا تقدر أن تفعل شيئًا (يوحنا ١٥)، وأن ليست فيها القوة للجري والركض ما لم يجذبها هو وراءه، 

ما هو جدير بالملاحظة  هنا هو قول العروس "اجذبني" (بصيغة الفرد) "فنجري"(بصيغة الجمع) ، حين يجذب المسيح نفسًا تتحول لكارزة تجذب آخرين له ،  النفس التي أحبت المسيح لا تهدأ حتى ترى الكل قد عرف عريسها وأحبه، كما تشتهى خلاص كل إنسان.

إذا ركضنا وراء الرب لا ينشئ  فقط بركة لنفوسنا بل يؤثر في نفوس الآخرين ويوقظ مشاعرهم ويقودهم إلى معرفة المخلص الوحيد وبالتالي سيجروا معنا وراءه ، فيالها من مسئولية خطيرة إذ ان كل كلمة ننطق بها وكل عمل نعمله لا بد ان يترك أثره في نفوس الآخرين. نعم ان مسئولية كنيسة الله التي هي عمود الحق وقاعدته خطيرة جدا، فإذا ما كانت الكنيسة ناهضة وأمينة لرأسها المبارك فأنها تستطيع ان تربح نفوسنا كثيرة وتجتذبها إلى المسيح.


هذا هو سر الصليب. إنه يحمل قوة الشهادة وسر الفرح.. لقد انجذب زكا العشار للسيد المسيح، فجمع الخطاة والعشارين ليلتقوا بالرب ويفرحوا به، والسامرية تركت جُرتها وذهبت إلى مدينتها لتقول لأهلها. هلموا أنظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح. فخرجوا من المدينة وأتوا إليه (لوقا / ١٩  ، يوحنا ٤ / ٢٩).. وكانت السامرة هي أول مكان في العهد الجديد دُعي فيه المسيح مخلص العالم.


* * * 

أدخلني الملك إلى حجاله =

ان العروس تعترف بأنه هو الذي أدخلها إلى حجاله، فنحن من ذواتنا ليست فينا القدرة على الدخول إلى حجاله، لكنه تكرما منه هو الذي يدعونا ويقودنا بالروح القدس إلى محضره المقدس لنتمتع بهذه الشركة المباركة.

الحجال الإلهي هو انجذاب النفس إلى حجال الرب .

يرى بعض الآباء أن "الحجال الإلهي"، هو "سرّ المعمودية". ففي جرن المعمودية يلتقي المؤمن بالسيد المسيح عريسًا له. يلبس الإنسان الجديد، وينعم بالملكوت الإلهي. تلبس النفس مسيحها كثوب أبيض للعرس الأبدي، 


تصرح العروس بان الذي أدخلها إلى حجاله هو "الملك" فهو ليس العريس فقط بل أنه "الملك"، إذا لنعط للملك مكانه اللائق به في قلوبنا وفي حياتنا وهو في نعمته الغنية يدخلنا إلى حجاله.

و مع ان العروس تمتعت في حجاله ببركات كثيرة ونعم وهبات لا حصر لها ولكن موضوع بهجتها وفرحها هناك ليس تلك البركات ولا المناظر المجيدة التي في تلك الحجال، وأنما شخص عريسها وملكها الذي استحوذ عليها وامتلك كيانها بجملته، فلم تلهها عنه البركات الكثيرة التي أغدقها عليها هناك.


* * * 

حبك أكثر من الخمر =

ليس ما ينعش نفوسنا وينهض حياتنا الروحية ويزيدنا تعلقا بالرب وتكريسا له أكثر من ذكر محبته "لان محبة المسيح تحصرنا. . " وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ٥ / ١٤ - ١٥) ومهما أحاطت بنا الهموم والآلام فالتأمل في محبته وامتلاء قلوبنا وعقولنا بها يرفعنا فوق كل الظروف المحيطة بنا، إذ ان "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. . فأنه لا موت ولا حيوة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ٨ / ٣٧ - ٣٩ ).


ويا له من امتياز ثمين لكنيسة الله إذ تذكر في مدة غربتها في هذا العالم محبة عريسها المبارك "أكثر من الخمر"  ففي أول الأسبوع تلتف حول مائدته الكريمة ، فتأكل من الخبز الواحد وتشرب من الكأس (الخمر) وهناك تذكر حبه فتبتهج بفرح لا ينطق به وتسكب عواطفها أمامه سجودا وتعبدا وتسبيحا "أخذ يسوع خبزا وبارك وكسر وأعطاهم وقال خذوا هذا هو جسدي ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم. . . وقال لهم هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين . . ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون"(مرقس ١٤ / ٢٢ - ٢٦)  فذكرى حبه العجيب ملأت أفواههم تسبيحا وترنما.

* * *

صحيح ان شعب إسرائيل بسبب خطاياهم وشرورهم الكثيرة ولا سيما رفضهم ملكهم وصلبهم إياه قد أدركهم الغضب إلى النهاية، فأحدقت الأعداء بأورشليم المحبوبة وأخرجوا الهيكل والمدينة معا، والذين نجوا من السيف تشتتوا في أربع رياح السماء بسبب غضب الله المتقد. ومن ذلك الوقت صارت حالة إسرائيل "مهجورة وموحشة" غير أنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، وهنا نرى الحاجة الماسة إلى فهم الفرق بين معاملات الله السياسية لشعبه ومعاملته لهم بالنعمة، فاليهود كانوا ولا يزالون بسبب خطاياهم وعدم توبتهم واقعين تحت التأديب طبقا لسياسة الله العادلة، ولكن نعمة ومحبة قلبه لهم باقيتان لا تغيير فيهما.





5 أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان


كخيام قيدار = 

قيدار كان إبناً لإسمعيل وكانت خيامهم لونها أسود من الخارج. 


كشقق سليمان = 

ولكنها جميلة كشقق سليمان أي ستائر قصور سليمان الملونة، وهذه تظهر من الداخل "فكل مجد ابنة صهيون من داخل" ( ... مجد ابنة الملك في خدرها) (مزمور ٤٥ / ١٣).

سر جمالها الداخلي وجود المسيح فيها. وقبل الهيكل الذي أسسه سليمان كانت العبادة في خيمة الاجتماع حيث يسكن الله مع شعبه كسر جمال لهم.  


"سوداء وجميلة" =   

سوداء "كخيام قيدار" وجميلة "كشقق سليمان" هذان الوصفان يبينان حالة المؤمن ومقامه .

فهو بحسب حالته وارث لطبيعة آدم الساقطة و مولود بالخطية، وقيدار معناه ذو الجلد الأسود، وهو أحد أبناء إسماعيل ابن الجارية الذي يعتبر صورة للخطية الساكنة فينا وبنو قيدار حيثما حلوا فأنهم يسكنون في خيام سوداء . هذه صورة مصغرة للطبيعة البشرية الساقطة الساكنة في المؤمن على السواء ، سوداء كخيام قيدار، (أنظر مز١٢٠ / ٥ ، وتكوين ٢٥ / ١٣ ،  غلاطية ٤ / ٢٣).

و لكن من الوجه الآخر فالمؤمن جميل "كشقق سليمان" وما كان أجمل بيت سليمان في ذلك الحين . 

ولنا في العهد الجديد أدلة كثيرة جدا ترى المؤمن في صورتيه، وتؤكد بدون أدنى التباس ان كل مؤمن يحمل بين جنبيه طبيعتين ، الطبيعة القديمة الموروثة من آدم والطبيعة الجديدة المولودة من الله، فينا، و بيسوع المسيح أصبح المؤمن في المسيح إنسان جديد "شريك الطبيعة الإلهية" و أصبحت النفس البشرية جميلة و سر جمالها الداخلي وجود المسيح فيها.


* * *


ولنلاحظ ان العروس في هذا العدد توجه كلماتها هذه إلى "بنات أورشليم" وهذا يتبين منه ان "بنات أورشليم" لسن هن العروس ولو أنه توجد علاقة بينهما فإذا كانت العروس تشير إلى المدينة المحبوبة أورشليم "مدينة الملك العظيم" فبنات أورشليم يشرن غالبا إلى مدن يهوذا أو ربما للراجعين للرب من إسرائيل، ومع أنه سيكون لها (أي لمدن يهوذا ) نصيب مبارك في ملك الرب ولكنها لن تصل إلى نصيب ومقام العروس وإعزاز الملك لها، إذ هو واضح في كلمة الله ان أورشليم سيكون لها المركز الأول "لان الرب اختار صهيون اشتهاها مسكنا له هذه هي راحة إلى الأبد ههنا أسكن لأني اشتهيتها" (مزمور ١٣٢ / ١٣ - ١٤) "والآن قد اخترت وقدست هذا البيت ليكون اسمي فيه إلى الأبد وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام" (سفر أخبار الأيام الثاني ٧ / ١٦).


إما بالنسبة للكنيسة  فالنفس البشرية  التي إشتهت إيمان العالم كله بالمسيح، تدعو من لم يتذوق محبة يسوع المسيح بعد  ان يكرس له كل القلب - و لذا تدعو العروس الكل لأن يدخلوا إلى العمق فيتذوقوا وتسميهم هنا بنات أورشليم .





6 لا تنظرن إلي لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره


لا تنظرن إليَّ لكوني سوداء = 

أي لا تحكمن بحسب المظاهر. فالشمس قد لوحتني أي التجارب و الخطايا التي كالشمس حولت لوني للسواد، ولكن هذا خارجياً فقط. هو شيء وقتي، فبعد أن نبتعد من تحت الشمس (هذا العالم) سينتهي هذا اللون الأسود ويعود لنا لون بشرتنا الأصلي بل أبهى وذلك في جسدنا الممجد، فهناك نصير مثله لأننا سنراه كما هو .

* * *

بنو أمي = 

ان كان العريس نفسه قد تألم من تعييرات اليهود أخوته "بني أمه" وقد اشتد غضبهم عليه حتى قتلوه "بأيدي آثمة" فلا غرابة ان كان المؤمنون يسيرون في نفس خطوات عريسهم المبارك "ان كان العالم يبغضكم فأعلموا أنه قد ابغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم. أذكروا الكلام الذي قلته لكم ليس عبد أعظم من سيده. ان كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم (يوحنا ١٥ / ٨ - ٢٠)  وطوبى لنا ان تألمنا لأجل البر وعيرنا باسم المسيح لان روح الله يحل علينا . ذلك خير لنا من ان نجاري أهل العالم لنكتسب رضاءهم لان "جميع الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون" وان كنا سنشترك مع المسيح في مجده فلا بد لنا أولا ان نشاركه في آلامه "ان كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضا معه" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ٨ / ١٧) . فالصليب أولا ثم الإكليل، ولا إكليل بدون الصليب.


حين قامت الكنيسة المسيحية كان أول من هاجمها واضطهدها هم اليهود. وبعد هذا قام على الكنيسة كثير من الهراطقة الذين أذاقوها مرارة الانقسام والخصومة. 


وأنه لمن المؤلم حقا ان الذين غضبوا على العروس هو أقرب الناس إليها "بنوا أمها" وان كان أمرا غريبا إلا أنه حقيقة واقعية، فأنه متى وجدت الرغبة الصادقة في الشركة مع الرب والالتصاق به وتكريس الحياة له، والتمتع بمحبته فان المقاومة لا تأتي من الذين من الخارج فقط بل كثيرا ما تكون من الذين هم في داخل أيضا أو بالحري من مؤمنين، كم هو مؤلم حقا ان من يرغب في حياة الانفصال عن كل ما ليس من يسوع المسيح وفي العيش بالقداسة والسلوك وان تكون حياته بجملتها في رضى الرب، كثيرا ما يقابل حتى من بعض المؤمنين بالازدراء والتحقير ويحسب متطرفا وضيق الفكر.


لا بد ان يختبر بعض المؤمنين بيسوع المسيح هذه الحقيقة أثناء اجتيازهم في تلك الضيقة المرة، فأنهم لا يقعون تحت ضغط اضطهاد ضد يسوع  المسيح فقط، بل ان بعضا من أخوتهم حسب الجسد سينقلبون ضدهم " اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه: قال إخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي: ليتمجد الرب. فيظهر لفرحكم، وأما هم فيخزون " (أشعياء ٦٦ / ٥). 

هذا هو المقصود بقول العروس "بنوا أمي غضبوا علي" ولكن ما أجمل وعد الرب لكل مسيحي مضطهد ومقاوم لأجل الرب ولأجل الحق "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لان أجركم عظيم في السموات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم"(متي ٥ / ١١ - ١٢).


* * *

جعلوني ناطورة الكروم  =

 لقد جعل الله الكنيسة ناطورة الكروم .أي حارسة للكروم كلها 

ولنلاحظ أن الله كان بعد كل مؤامرة شيطانية من الهراطقة يجعل الكنيسة  تخرج أقوى مما كانت. بل ومن خلال منازعات الأفراد داخل الكنيسة "يُخْرِج الله من الجافى حلاوة". فخلاف القديسين بولس ومرقس جعل القديس مار مرقس يتجه إلى مصر والنتيجة دخول مصر للإيمان. وهذا ما رأيناه أيضًا أن أزهى عصور انتشار المسيحية كانت أصعب فترات الإستشهاد إذ أدرك الناس حلاوة المسيحية من داخل فآمنوا وإستشهدوا.


* * *

أما كرمي فلم أنطره =

لقد جعل الله الكنيسة ناطورة الكروم= أي حارسة للكروم كلها فلم تحرس حتى كرمها وانشقت .

ايضا قد نري الكنيسة احيانا تهمل أبنائها فلا تذهب مثلا للبحث عن الواحد الذي ضاع مثلما فعل معلمها و راعيها يسوع المسيح ، و هكذا لا ترعي الكنيسة كرمها . 

* * *

و ينطبق نفس الشئ علي كل مؤمن ، إن عدو يسوع المسيح يبذل كل الجهد لكي يسلب من المؤمن أوقاته وقواه ومواهبه التي ائتمنه الرب عليها، فعوضا عن ان يستخدم المؤمن تلك الأوقات والمواهب لمجد الرب ولبركة نفسه فأنه ينفقها بكل سخاء في الأمور العالمية ظنا ان العالم سيعطيه أجرا على مجهوداته الباطلة، وما أكبر الخسارة التي تعود على نفس المؤمن الذي يتعب ويكد في الحصول على ثمرة مجهوداته الجسدية فإذا به يجد ان "الكل باطل وقبض الريح". من منِ المؤمنين الذين أنفقوا قواهم في الأمور العالمية لم يكن تعبهم باطلا؟ يا للأسف. قد أضاع الكثيرون حياتهم في خدمة العالم وخرجوا منه عراة بلا ثمر. ربما ظنوا في بادئ الأمر أنهم في تعبهم وكدهم في العالم يستطيعون ان يخدموا الرب، ولكن من ذا الذي يستطيع ان يحرس كرمين في ان واحد؟ "أما كرمي فلم أنطره". لقد حرست العروس كروم العالم فعجزت عن حراسة كرمها "لا يقدر أحد ان يخدم سيدين". ويا له من اعتراف مؤلم ومحزن "أما كرمي" العمل الذي لأجله أوجدني الرب هنا ، الموهبة التي ائتمنني عليها لأخدمه بها "ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة" ( رسالة بطرس الرسول الأولى ٤ / ١٠) ، الأوقات التي أضعتها سدى سيحاسبني الرب عليها ، و كذلك الأموال التي أوجدها بين يدي وجعلني وكيلا عليها (ليس أكثر) ، و الأولاد الذين اعطاني اياهم الله لأربيهم في تأديب الرب وإنذاره ، النفوس الضالة التي أوجدني الرب لاشهد لها بغنى نعمته ، كل ذلك سيحاسبني عليه الرب إن لم أكن امينا .

فهل نحن أمناء في هذه وغيرها مما أودعنا إلهنا؟ ليعطينا بنعمته ان نكون صالحين وأمناء في شهادتنا وخدمتنا له، فلا نضيع أوقاتنا سدى بل نكون " مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلا في الرب " (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ١٥ / ٥٨).


إذا لهذه العبارة معنى عمليا آخر هو من الأهمية بمكان "جعلوني ناطورة الكروم وأما كرمي فلم أنطره". أنه من السهل علينا ان نقيم أنفسنا حراسا على الآخرين فنراقب كل حركاتهم بل ربما ننتقد الكثير من أعمالهم بينما نهمل السهر على حالة نفوسنا، مع أنه كان الأولى بنا ان نلاحظ حالة نفوسنا أولا "لأحظ نفسك (أولا) والتعليم (ثانيا) وداوم على ذلك. لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك (أولا) والذين يسمعونك أيضا" ( رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس ٤ / ١٦) ،  أما إذا لم نسهر على حالة نفوسنا وانشغلنا بمراقبة حالة الآخرين وتصرفاتهم فأنه يتم فينا قول الرب "يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك. وحينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى من عين أخيك"(متي ٧ / ٥).


كم من المرات نهتم بخدمة أخوتنا سواء في الاجتماعات أو غيره ، وهذا حسن في ذاته، ولكننا نهمل حالتنا الروحية فلا تسبق خدماتنا الجهارية أو الفردية خدمة الشركة السرية العميقة لنفوسنا، ولذا فأننا نجد ان معظم خدماتنا للآخرين بلا ثمر، أما إذا أردنا ان تكون خدمتنا مثمرة وسبب بركة وفرح لشعب الرب وخلاص لنفوس كثيرة فعلينا ان نكون نحن في قوة الحياة الروحية أولا. لا نستطيع ان نتوقع بحق خلاص نفوس كثيرة ما لم نكن نحن أولا في الحالة الروحية التي بها يستطيع الرب ان يستخدمنا في هداية النفوس البعيدة إليه، ولكي نكون كذلك يجب ان نسلم ذواتنا تسليما كليا للرب يسوع المسيح، ولا يمكن أيضا ان تكون اجتماعاتنا جذابة لأولئك البعيدين ومحببة إليهم فتمتلئ بهم أمكنة اجتماعاتنا ما لم نكن نحن أولا كجماعة لها شركة قوية مع الرب. 

ان الكنيسة الحية روحيا هي التي يستطيع الخطاة ان يجدوا في جوها المنعش ما يجتذبهم إلى المخلص الوحيد ومن الناحية الأخرى إذا كان المؤمنون ذوو المواهب الروحية والمعتبرون أنهم أعمدة أو يحسبون متقدمين بين أخوتهم في حالة روحية سامية  ويقدمون أنفسهم قدوة للآخرين فأنهم بلا ريب يكونون سبب بركة وانتعاش روحي بين أخوتهم الآخرين، وفوق ذلك إذا كانت الكنيسة متيقظة ومتعقلة للصلوات فإنها بلا شك تتمتع ببركات روحية وفيرة ، فالرب يسوع يكون موضوع تعبد أفرادها والكتاب المقدس يصير أحب كتاب إليهم ، والصلوات في المخادع وفي الاجتماعات لا تكون واجبا ثقيلا بل ملذة لهم، وترمم المذابح العائلية في بيوت المؤمنين، وحتى الطعام العادي يتناوله المؤمنون ببساطة القلب والابتهاج، وبالجملة يتمتع القديسون أفرادا وجماعة بأيام السماء على الأرض.

* * *

ايضا هذا التعبير "جعلوني ناطورة الكروم وأما كرمي فلم أنطره" ينطبق تماما على حالة أورشليم ويهوذا، فاليهود كانوا يشغلون مركز "قائد للعميان. . . ومهذب للأغبياء"  لذا كان لزاما عليهم ان يكونوا شهودا أمناء لله بين كل أمة وقبيلة ولسان، ولكنهم مع الأسف لم يكونوا أمناء في مسئوليتهم أمام الله بأزاء كل العالم، كان واجبا عليهم ان يكونوا بركة لكل أمة تحت الشمس طبقا لوعد الرب لإبراهيم بان فيه تتبارك كل أمم الأرض، ولكنهم لم يحرسوا ذلك الكرم بل أكثر من ذلك لم يحتفظوا ببركاتهم التي اختصهم الرب بها.


إلا أنه سيجيء الوقت الذي فيه ترجع بقية منهم إلى الرب وعندئذ يتمتعون ببركاتهم التي وعدوا بها "لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة" وعندئذ لا تقول العروس "وأما كرمي فلم أنطره" بل بالحري تقول "كرمي الذي لي هو أمامي" (نشيد الأنشاد ٨ / ١٢).






7 أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى ، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك


 أخبرني يا من تحبه نفسي =

حقا ما أعذب الأسلوب الذي به تخاطب العروس عريسها "يا من تحبه نفسي" وهذا أقل ما ينتظره الرب منا نحن المؤمنين ان نحبه فهو الذي "أحبنا المسيح أيضا وأسلم نفسه لأجلنا " (أفسس ٥ / ٢) . 

"أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أفسس٥ / ٢٥) "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. . . " (رؤيا ١ / ٥ ) "بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا" (رسالة يوحنا الرسول الأولى ٣ / ١٦) فلا فضل لنا ان كنا نحبه "لأنه هو أحبنا أولا" ولا ريب في ان كل مؤمن حقيقي يحب المسيح الذي أحيه " الذي وان لم تروه تحبونه" أما "ان كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما" (أي محروما أو مسلما للهلاك (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ١٦ / ٢٢ )  ولكن "النعمة مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد. 


"أين تربض عند الظهيرة؟" إلى أي مكان تقود خرافك لتستريح في وقت الظهيرة ،  وقت الحر الشديد والقيظ اللافح؟ وسؤال العروس هذا يدل دلالة واضحة على أنها لم تكن متمتعة تماما بالراحة والسعادة الحقيقتين وإلا لكانت تغنت مع المرنم "في مراع خضر يربضني إلى مياه الراحة يوردني" (مزمور ٢٣ / ٢) ما أحوجنا في ظهيرة هذا العالم وحرارته المحرقة ان نجد راحتنا في الشركة مع الرب الذي أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد، وأيضا في شركتنا نحن المؤمنين معا.


هنا نرى العروس تتوجه بكل عواطفها وبإيمان وطيد إلى عريسها وحبيبها، فبعد ان تتحدث إلى بنات أورشليم عن ذاتها وحالتها فأنها تلجأ إليه معترفة بحالتها وطالبة منه هدايتها، فهي لم تكتف بمجرد الاعتراف بسوء حالتها وبعدم أمانتها في حراسة كرمها بل رغبت رغبة قلبية صادقة في الخلاص فعلا من هذه الحالة. ما أكثر اعتراف المؤمنين في هذه الأيام بما وصلت إليه نفوسهم من الضعف الروحي بسبب الارتباك بأمور الحياة الكثيرة، ولكن كثيرين منهم وقفوا عند حد الاعتراف فقط ، يجب ان يعقب الاعتراف الرجوع القلبي الصحيح "تغيروا عن شكلكم" (رومية ١٢ / ٢). هذا ما عملته العروس إذ التجأت إلى عريسها، ويا له من تغيير مبارك في نفس العروس، فقد ملأ العريس قلبها وعقلها. أما الذات فقد غابت من المشهد، ويا لها من رحمة، فلا مجال للحديث الآن عن سوادها أو جمالها.

* * *

أين ترعى ، أين تربض عند الظهيرة = 

ان في قول العروس "أين ترعى أين تربض (أو تجعل قطيعك يستريح) عند الظهيرة" دليلا على أنها كانت تشتاق لا ان تتمتع بالرب كعريسها فقط فتخلو به في شركة سرية مقدسة، بل كانت تشتهي ان تتمتع به كالراعي الذي "يرعى قطيعه". كانت تحب الشركة مع الرب ومع خرافه المحبوبة "القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم" (مزمور ١٦) وليس أعز لقلب المؤمن الحقيقي من اجتماع المؤمنين معا باسم الرب وفي حضرته المباركة "لأنه هناك أمر الرب بالبركة حياة إلى الأبد" (مزمور ١٣٣).


أين ترعى =

"الرب راعي" فهو ليس عريسي الذي يحبني فقط بل وراعي الذي يرعاني ويعتني بي "فلا يعوزني شيء" والعروس تبدي رغبتها الملحة في ان تتبع الرب إلى مراعيه حتى ولو كانت تلك المراعي لا تروق لنظر العيان، وتفضل ان توجد معه في تلك المراعي وتلتذ بسماع صوت راعيها الحنون على ان توجد في المراعي الأخرى وتسمع أصوات الرعاة الآخرين "أما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء"(يوحنا ١٠ / ٥).


لم تكتف العروس (النفس البشرية)  بمعرفة الرب كالعريس وكالملك فقط بل عرفته أيضا كالراعي وطوبى لنفس قد أدركت كل ما لها في الرب من النسب والعلاقات المباركة، فكما أنه تبارك اسمه هو العريس والملك فهو أيضا الراعي ، "الراعي الصالح" الذي بذل نفسه عن الخراف (يوحنا ١٠) ، "راعي الخراف العظيم" المقام من بين الأموات ، كما أنه "رئيس الرعاة" الذي لا بد ان يكافئ من يرعون قطيعه بأمانة.


أين تربض =

كلمة يربض تقال عن الأسد المستعد للإنقضاض على فريسته ، ومسيحنا هو الأسد الخارج من سبط يهوذا الذي يدافع عن كنيسته عروسه ،  وقت اشتداد التجارب (= عند الظهيرة =) عندما تشرق الشمس التي تلوحها. 


إن هذه النفس البشرية /  أو هذه الكنيسة الكارزة في كرازتها وقف و يقف ضدها مهاجمون يحاولون تشكيكها في مسيحها وعقيدتها. فصرخت و تصرخ لمسيحها راعيها تبحث عنه ليعطيها قوة  و صلابة فيعطيها ما تتكلم به أمام هؤلاء الهراطقة. 


* * *

الظهيرة = 

لماذا اختارت العروس أن تلتقي بعريسها الراعي في وقت الظهيرة، قائلة "أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟"


إن كنا نلتقي بالراعي الصالح في كنيسته الواحدة الممتدة عبر العصور إنما تدخل إليه لنراه متجليًا فيها كشمس الظهيرة... فلا يعرف أعضاؤها الظلمة أو الظلال، بل يعيشون على الدوام في ذروة نور راعيهم، يستنيرون به فيصيرون بدورهم نورًا للعالم. في هذا يقول الحكيم: "أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام" (أ سفر الأمثال ٤ / ١٨ - ١٩).


* * * 


لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك =

نجد العروس هنا تلوم نفسها أنها في بعض الأحيان تترك راعيها الحقيقي وتكون كمقنعة عند قطعان أصحابك.

 

 أننا بكل أسف نرى الكثيرين من المؤمنين ، أولاد الله الأعزاء غير متمتعين كما يجب بالحرية التي لهم في المسيح وذلك بسبب ما وضع على عيونهم من البراقع الكثيرة كالفرائض اليهودية والتقاليد البشرية التي لا تتفق مع كلمة الله، ووصايا الناس وتعاليمهم وآرائهم العاطلة، بل كم من الذين استناروا في معرفة الإنجيل قد حرموا أنفسهم من لذة الحرية الحقيقية  ، حرية السجود والعبادة "بالروح والحق" بسبب برقع الأنظمة البشرية التي عظمت الإنسان وسلبت من الرب - رأس الجسد - سيادته ورئاسته وسط المجتمعين باسمه  ،  وسلبت من الروح القدس حقوقه في وسط جماعة الله، ومن الغريب ان هذه الأنظمة لها صورة دينية جذابة وهذا ما أدركته العروس واعترفت به في قولها "قطعان أصحابك" أي كأنه يوجد تضليل من هذه التعاليم والأنظمة المخترعة لتضليل الناس و ابعادهم عن الرب.


العروس تهزها  التعاليم الغريبة للآخرين، هي إنجذبت وراء فكر آخر غير فكر المسيح الواحد، خرجت من كنيسته الواحدة الوحيدة وذهبت وراء قطعان آخرين، وهنا نجدها تلوم نفسها على ذلك. ومن إنجذبت وراءهم يدَّعون أنهم أصحاب عريسها = قطعان أصحابك (رسالة يوحنا الرسول الأولى ٢/ ١٩ ، ٢٢).


و هنا اشارة إلي ان الكنيسة بكل أسف أنقسمت علي نفسها إلى طوائف ومذاهب متعددة، وكثيرون من محبي الحق يقفون حائرين أمام هذه الانقسامات العديدة والتشويشات المتنوعة ولا يعرفون ماذا يعملون بازائها، ولكن كلمة الله صريحة وفيها الكفاية لإرشاد كل مسيحي مخلص إلى السبيل المنير "هكذا قال الرب. قفوا على الطريق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم" (أرميا ٦ / ١٦) ومتى لجأ أمثال هؤلاء الحيارى إلى الرب قائلين بإخلاص "أين ترعى أين تربض؟" فجوابه على ذلك صريح وواضح كل الوضوح "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم"(متي ١٨ / ٢٠)  ، فأقل عدد من المؤمنين "اثنان أو ثلاثة" يجتمعون معا باسم الرب وتحت رئاسته، ولا يعرفون رأسا أو رئيسا سواه فهناك يكون هو له المجد  في وسطهم، وفي حضوره المبارك كل الكفاية.


لكن العروس لم تجد راحتها ولا حريتها عند قطعان غيره حتى أنها اضطرت ان تضع قناعا (أي برقعا) على وجهها، مع أنها لو كانت معه متمتعة به حيث يرعى قطيعه لرفعت ذلك القناع ولتمتعت بالحرية الكاملة. تلك كانت صورة لحالة شعب الرب الأرضي في العهد القديم .


مقنعة = 

تعني من ترتدي قناعاً أو برقعا  وبالتالي تكون غير قادرة على الرؤية جيداً لذلك تترجم الكلمة أيضاً "تائهة" أو "مغشى عليها".


* * *

 

بقيت ملاحظة مختصرة على كلمة "قطعان" فأنه مهما تعددت القطعان ولكن للرب راعي لقطيع واحد  "رعية واحدة وراع واحد" (يوحنا ١٠ / ١٦)  و واجب على كل مؤمن حقيقي ان يبتعد عن كل انقسام  و ينفصل عن كل ما يسمى "طائفة" وان يطهر نفسه من كل أواني الهوان "ويتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس ٢ / ٢٢)  وبذا "يكون إناء للكرامة مقدسا نافعا للسيد مستعدا لكل عمل صالح" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس ٢ / ٢١) .


تعبر ايضا كلمات هذا الجزء عن انضمام الشعب اليهودي في المستقبل إلي كنيسة يسوع المسيح ، إذ ستنفتح عين الشعب اليهودي  ليعرف المسيا ملكا  وستهتم تلك البقية أو بالحري العروس الأرضية بأمر الشركة والوجود مع العريس الملك الراعي  حيث يرعاها ويشبعها ويريحها. 

لقد ضلت الأمة اليهودية عن الله وسط الأمم زمانا طويلا، ولكن عندما ترجع البقية إلى الرب فسيكون قلبها بجملته له ،  للمسيا الذي تحبه نفسها وعندئذ لا تكون كمقنعة عند قطعان الرعاة الآخرين بل سيرفع البرقع وسترى المسيا "الملك في بهائه".


من المحقق ان كلمات هذا العدد هي لغة البقية التقية في يومها القادم، فأنها إذ تنفتح عيناها لتعرف المسيا ملكها سيملأ روح الله نفسها بالمحبة له "يا من تحبه نفسي" وسيكون ذلك صدى محبته وملاطفته لها .

وستهتم تلك البقية أو بالحري العروس الأرضية بأمر الشركة والوجود معه حيث يرعاها ويشبعها ويريحها. لقد ضلت الأمة اليهودية عنه وسط الأمم زمانا طويلا، ولكن عندما ترجع البقية إلى الرب فسيكون قلبها بجملته له ، للمسيا الذي تحبه نفسها وعندئذ لا تكون كمقنعة عند قطعان الرعاة الآخرين بل سيرفع البرقع وسترى المسيا "الملك في بهائه".





8 إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة




(ملحوظة : نسخ الكتاب المقدس التي كتبت فوق الايات من هو المتكلم وضحت ان المتكلم هنا في :  الاصحاح الأول من سفر نشيد الانشاد ، عدد ٨ ، هم الاصدقاء و ليس العريس ... لذا قد يختلف الشرح ، ندعوك للبحث)





أيتها الجميلة = 

أن العريس (يسوع المسيح)  ينادي العروس (كنيسته) بقوله "أيتها الجميلة بين النساء".. إن لها جاذبية عظمى عنده.

سيتكرر وصف العريس لها بأنها جميلة وهذا لمحبة عريسها لها، بل لم نسمع طوال السفر كلمة توبيخ واحدة من العريس للعروس.


هذا هو أول كلام للعريس في هذا السفر، فان كان كلام العروس جميلا، فأجمل منه كلام العريس، فلتصمت العروس ولتصمت العذراى وبنات أورشليم ولتصمت الخلائق بأسرها وليتكلم الرب يسوع العريس والراعي الملكي "أنصتي أيتها السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي"(تثنية ٣٢ / ١) "من له أذنان للسمع فليسمع" ،  "خرافي تسمع صوتي" ما أرق وأعذب صوتك يا رب  ، يا راعينا الصالح وعريسنا المبارك. 

هبنا ان نجلس عند قدميك في كل حين لنسمع كلمات النعمة الخارجة من فمك.


ومع ان العروس اعترفت بجهلها للمكان الذي فيه يرعى عريسها خرافه ولكنها في نفس الوقت عبرت عن محبتها له بقولها  "يا من تحبه نفسي" فهل يبقى الرب صامتا أمام هذه المحبة ؟ 

حاشا، فهو الذي قال "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي"(يوحنا ١٤ / ٢١) لذا يناديها بهذا الوصف الحلو "أيتها الجميلة بين النساء" فهي ليست مجرد جميلة ولكنها "الجميلة" فمع أنه توجد نساء أخريات فيهن شيء من الجمال ولكن العروس في  نظر عريسها هي الفريدة في الجمال. 

قد نجد في البعض من غير المؤمنين شيئا من جمال الصفات ولكنها لا قيمة لها في نظر الرب لان مصدرها الطبيعة البشرية الساقطة "المولود من الجسد جسد هو" (يوحنا ٣  / ٦ ) ،  أما العروس فهي الجميلة بين النساء. رغما سوادها كخيام قيدار فإنها من فرط نعمته جميلة كشقق سليمان "بنات كثيرات عملن فضلا أما أنت ففقت عليهن جميعا" (أمثال ٣١ / ٢٩).


ان الكنيسة غالية وثمينة في عيني المسيح، فهو قد أحبها وأسلم نفسه لأجلها لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها  بل تكون مقدسة وبلا عيب. أنها اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن التي لأجلها مضى وباع كل ما كان له واشتراها (متي ١٣ / ٤٦).


* * *


ما أعجب محبة العريس ،  "محبة المسيح الفائقة المعرفة"  فأنه يعتبركنيسته  (أي العروس) الجميلة الوحيدة بين النساء في الوقت الذي أظهرت فيه جهلها للمرعي الذي فيه يربض خرافه، الأمر الذي اضطره ان يوبخها توبيخا لطيفا بقوله "ان لم تعرفي" وهل هناك أرق من هذا التوبيخ، فهو لم يزجرها بقارس الكلام، ولكنه بكل لطف يقول لها "ان لم تعرفي" أو بالحري "كان يمكنك ان تعرفي لان الطريق واضح أمام عينيك" لقد قال مرة لفيلبس "أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟" (يوحنا ١٤ / ٩) .

لقد  أوضح لها الراعي معالم الطريق :  "فأخرجي على آثار الغنم".

ان قطيع الرب الحقيقي يسير وراء الراعي وحده "ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها والخراف تتبعه" (يوحنا ١٠ / ٤) ،  والنفس التي تريد ان تسير في الطريق آمنة، عليها ان تسلك الطريق الصالح و هذا الطريق هو أن تتبع يسوع المسيح لأنه هو وحده الطريق و الحق و الحياة. 

وتبارك اسم الرب عريسنا وراعينا لأنه ترك لنا "آثار الغنم" التي لا تمحى  (أي أسفار الكتاب المقدس) بصفة عامة وما كتبه رسل وأنبياء العهد الجديد بصفة خاصة. 


 وما أرق عاطفتك بل ما أرق توبيخات محبتك! إنك مستحق ان تعبدك قلوبنا في كل حين.


* * *


أنه وان كان الرب من جهة  بحبنا حبا فائقا ولا يرى جمالا يملأ نفسه سرورا إلا فينا ولكنه من جهة اخري لا يتغاضى عما يبدو منا من الجهالة لان قداسته لا يمكن ان تتساهل مع أقل شر أو شبه شر يظهر في حياتنا، فيستعمل معنا وسائط لطيفة ليرد نفوسنا إلى الحالة التي تليق بعلاقتنا به، وهذه من أهم اعمال الراعي الصالح "يرد نفسي يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه" (مزمور ٢٣) . الله من محبته لنا يلاطفنا اولا مستخدما معنا وسائل رقيقة ليرجعنا اليهو لكنه احيانا يضطر إلى استخدام وسائل اكثر شدة  احيانا و قد تكون مؤلمة لطبيعتنا، ولكن هذه الوسائل هي من أقوى الأدلة على محبته القوية لنا "الذي يحبه الرب يؤدبه".


* * *


"فأخرجي على آثار الغنم" =

ليتبارك اسم الرب عريسنا وراعينا لأنه ترك لنا "آثار الغنم" التي لا تمحى ، أي الكتاب المقدس .. هذه بلا شك آثار الغنم التي إليها يوجه العريس عروسه قائلا "فأخرجي على آثار الغنم".


ومتى كانت لنا العيون المفتوحة نستطيع ان نرى آثار أقدامه المباركة وآثار أقدام خرافه المحبوبة "فأخرجي على آثار الغنم". ان قطيع الرب الحقيقي يسير وراء الراعي وحده "ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها والخراف تتبعه" (يوحنا ١٠ / ٤) والنفس التي تريد ان تسير في الطريق آمنة ، عليها ان تسلك الطريق الصالح الذي سار فيه الرب قبلا والذي داسته أقدام رجال الله الأمناء قبلنا والذي يسير فيه الآن قطيع الرب المحبوب. 

لا شك ان من واجبنا ان نسير وراء الرب وحده ولكن من ذا الذي يسير وراء الرب ولا يرى آثار أقدام خرافه الأمينة؟ 


* * *


إنك يا عروس قد تمتعت ببركات كثيرة منذ دخلت إلى حجالي، ولكن ليس هذا هو الكل، فعليك أيضا ان "تخرجي" . . . . "ان دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى"(يوحنا ١٠ / ٩) ،  فلا يكفي ان ندخل فقط إلى مراعيه حيث الشبع وحيث الأمن والسلام ولكن علينا ان نخرج للجهاد "فلنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا" ( رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ١٢ / ١). 

قد يكون الخروج مؤلما ولكن يكفينا شرفا ان الرب قد خرج أولا، فقد سار كالشاهد الأمين في طريق الآلام تاركا لنا مثالا لكي نتبع خطواته "فلنخرج إذا إليه خارج المحلة حاملين عاره" (رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ١٣ / ١٣).


ما أقسى هذه الحقيقة على نفوس الكثيرين من أولاد الله الأعزاء الذين دخلوا دائرة النعمة التي هم فيها مقيمون، ولكن يعز عليهم ان يخرجوا بقلوبهم منفصلين عن مبادئ العالم الشريرة أو الأنظمة الدينية البشرية "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجسا فأقبلكم"(رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ٦ / ١٧)  ومتى خرجنا بكل قلوبنا فلن نضل الطريق لان الرب سائر أمامنا فيها.


* * *


"وارعي جداءك عند مساكن الرعاة" = 

ان المقصود بالجداء هو الأغنام الصغيرة الضعيفة، ومن واجبنا ان نهتم بسلامة نفوس أخوتنا الضعفاء وبتعزية حياتهم الروحية، فلا نحتقرهم إذ ان المسيح مات لأجلهم. علينا ان كنا أقوياء ان نحتمل الضعفاء ، حتى إذا عثروا أو سقطوا فلا نقسوا عليهم بل نهتم بإصلاحهم بكل وداعة "أيها الأخوة ان انسبق إنسان فأخذ في زلة ما فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظرا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضا. احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح"(غلاطية ٦ / ١-٢).

أنه من واجبنا ان نهتم بأولئك البعيدين عن الهنا ولا سيما الذين لنا صلة بهم سواء كانوا من عائلاتنا وأقاربنا أو أصدقائنا وزملائنا في دوائر أشغالنا. هؤلاء هم الجداء الذين علينا ان نبذل كل جهد في الاهتمام بهداية نفوسهم إلى المخلص الوحيد.


* * *

هذا وقد يكون المقصود بالجداء أيضا المؤمنين الأحداث، وهؤلاء يعنى الراعي بهم عناية خاصة فأنه "كراع يرعى قطيعه. بذراعه بجمع الحملان (أي الأغنام الصغيرة) وفي حضنه يحملها " (أشعياء ٤٠ / ١١)  ومن واجب المؤمنين البالغين ان يهتموا برعاية المؤمنين الأحداث وافتقاد سلامتهم والصلاة لأجلهم ومعهم وإرشادهم إلى ما يؤول إلى حفظهم طاهرين. علينا ان نوجدهم في الجو المسيحي الصحيح فيستفيدون من معرفة المؤمنين .


* * *


وإذا جاز لنا ان نعتبر ان الجداء إشارة لغير المؤمنين كما سلفت الإشارة، وتبعا لذلك تكون الخراف إشارة للمؤمنين الحقيقيين (أنظر متي ٢٥ / ٣٢ - ٣٣) ،  فإننا نقول لغير المؤمنين ان في المسيحية قوة لن توجد في سواها. ان كل ديانات العالم تستطيع بمقتضى ناموس الذهن أو ناموس الله ان تميز الفرق بين الشر والصلاح ولكنها تعجز عن ان تصير الشرير صالحا، أما المسيحية الصحيحة فإنها تمتاز عن غيرها بما فيها من القوة الإلهية التي تستطيع ان تغير الخاطئ الأثيم وتجعله خليقة جديدة. ألم يصر شاول الطرسوسي (أول الخطاة) بولس الرسول العظيم؟ هذه هي معجزة المسيحية الخالدة "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول ان المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس ١ / ١٥). ان إنجيل المسيح ليس مجرد قوانين ومبادئ ونظريات يقبلها العقل البشري ولكنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن (رومية ١ / ١٦).


* * *


"مساكن الرعاة" =

حقا  ان الرب وحده هو الراعي الصالح "راعي الخراف العظيم" ولكنه أيضا "رئيس الرعاة" ...  

و قد أعطى البعض ان يكونوا "رعاة ومعلمين" (أفسس ٤ / ٨ - ١١)  وهؤلاء الرعاة متى كانوا أمناء فإنهم يرعون القطيع لا باعتباره قطيعهم بل قطيع الرب  "ارع خرافي . . . ارع غنمي" (يوحنا ٢١ / ١٥ - ١٧)  وواجب الرعاة الأمناء ان يسهروا على سلامة نفوس المؤمنين "ومتى ظهر رئيس الرعاة ينالون إكليل المجد الذي لا يبلى" (رسالة بطرس الرسول الأولى ٥ / ٤).





9 لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون


يمتاز الخيل بالقوة والقدرة على دخول المعارك بسرعة بغير خوف، فقد قيل عنها: "هل أنت تعطي الفرس قوته وتكسو عنقه عُرْفًا.؟! الفرس يضحك على الخوف ولا يرتاع ولا يرجع عن السيف" (أيوب ٣٩ / ١٩ - ٢١). وتحدث زكريا النبي عن قوة بيت يهوذا هكذا: "أن رب الجنود قد تعهد قطيعه بيت يهوذا، وجعلهم كفرس جلاله في القتال" (زكريا ١٠ / ٣).  ورأى الرسول بولس نفسه أحد هذه الفرس في مركبة الخلاص، فقال: "شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" ( رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ١٥ / ٥٧).


أما قول الرب هنا "في مركبات فرعون" ، فقد عرف سليمان الملك ان جياد الخيل لا توجد إلا في مصر حتى أنه هو وجميع ملوك الحثيين وملوك أرام كانوا يشترونها من هناك وإذا كانت أجود الخيل في مصر فان فرعون كان بلا شك ينتفي أحسنها وأكثرها جمالا ورشاقة لمركباته، هذا فضلا عما كان يزينها به لتبدو كاملة الجمال.


  ربنا يؤكد أنه وإن صار المؤمنون خيلًا للرب يحملون السمة السماوية لكنهم "مركبات فرعون" أي يعيشون على الأرض (في .مصر) ،  وقد عرفت مصر بجودة خيلها .


و في هذا التعبير "فرس (أو أفراس) في مركبات فرعون" إشارة إلى الحرب والجهاد، والرب له المجد يريدنا ان نكون نحن المؤمنون في حالة النشاط والقوة الروحية.  


هنا نلاحظ دعوة العريس (الرب) لعروسته (النفس البشرية / أو الكنيسة) فيدعوها : "فرس"  ، إذ تدخل النفس البشرية / أو الكنيسة تحت رعاية السيد المسيح ، بدعوته لها "فرس" يعلن الرب ملكية الكنيسة له و . هذا هو سرّ قوتها، فقد صارت في ملكيته، أقتناها بدمه، ويقودها بنفسه، تعمل لحساب ملكوته، لهذا رأى القديس يوحنا اللاهوتي الكنيسة كفرس الرب الأبيض "والجالس عليه معه قوس، وقد أعطي إكليلًا، وخرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤيا ٦ / ٢). كل نصرة لنا إنما هي باسمه ولحسابه.


والعروس ترى نفسها في هذا السفر في لباس حربي، فهي "مرهبة كجيش بألوية" (نشيد الانشاد ٦ / ٤ و ١٠) وهذه هي الحالة التي يجب ان يكون عليها المؤمنون في كل حين، فلا يكفي ان يعرف المؤمنون أنهم عروس المسيح ولكن عليهم أيضا ان يعرفوا أنهم أجناده وان أمامهم جهادا، وانه من واجبهم أيضا أي يكونوا في جهادهم الروحي صفا واحدا وراء قائدهم "رئيس جند الرب" الذي يقودهم في مركب نصرته في كل حين ، 


وتحمل مسئولية الشهادة لصليبه تلزمنا بالعمل بروح الوحدة مع بقية الخيل، إن اجناد المسيح يجب ان تعمل معا في موكب المسيح الواحد! 

العروس (الكنيسة) في جهادها الروحي كما في كرازتها ترتبط بكل أعضاء جسد المسيح، تقتفي أثار الآباء الأولين (أخرجي على آثار الغنم)، وتهتم بالأجيال المقبلة (أرعي جداءك)، وتنضم في العمل مع المجاهدين إذ تسير كأحد الفرسان التي في موكب المسيح يسوع ربنا. وكأن سرّ القوة في حياة المؤمن أنه وقد أرتبط بالمسيح رأس الكنيسة الواحدة يرتبط بالكنيسة كلها الممتدة منذ آدم إلى آخر الدهور، يعمل مع بقية الأعضاء بروح واحد.

ومن اعتزاز الرب بكنسيته التي يقودها كفرس لقب ب "الجالس على الفرس" (رؤيا ١٩ / ١٩ - ٢١).


أما وقد شبه العريس كنيسته بفرسه في مركبات الخلاص، يقودها بنفسه، ويجتاز بها إلى ملكوته، فإن الكنيسة أيضًا تتطلع إليه كملك حارب عنها واتحد بها ليقيمها ملكة تجلس عن يمينه. 


يُشير ايضا الخيل إلى قوة الله السماوية أو العلوية، ففي سفر حبقوق يقول النبي "جَلاَلُهُ غَطَّى السَّمَوَاتِ... وَقَفَ وَقَاسَى الأَرْضَ... هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ حَمِىَ يَا رَبُّ هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ غَضَبُكَ أَوْ عَلَى الْبَحْرِ سَخَطُكَ حَتَّى أَنَّكَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ، مَرْكَبَاتِكَ مَرْكَبَاتِ الْخَلاَصِ" (حبقوق ٣ / ٨).  وعندما رأى خادم اليشع النبي الجيش محيط بالمدينة اضطرب، لكن اليشع طلب من الرب أن ينفتح عيني الغلام، "فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلًا ومركبات نار حول اليشع" ( سفر الملوك الثاني ٦ / ١٧)... إلخ.





10 ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد


السموط هي صفوف الجواهر -والجمان هو اللؤلؤ- أي حبات من فضة كاللؤلؤ

لقد زين العريس (الرب) عروسته (الكنيسة) بالسموط (أي صفوف الجواهر) والقلائد الذهبية  و المتمثلة في الروح القدس الذي منحه الرب لكنيسته ، فالروح القدس هو الذي يملأ الكنيسة بالحيوية و بالحياة الروحية النشطة و قد انعكس هذا على وجه الكنيسة ، و كانت ثمار الروح القدس : الحب والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والتعفف (غلاطية ٥ / ٢٢). إذا سرّ جمال وجه الكنيسة هو تمتعها بثمار الروح القدس ( و الذي ظهر على شكل حمامة و شهد من قبل للعريس يسوع المسيح) .






11 نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة


إذ رأى العريس ان السموط والقلائد الذهبية قد زينت العروس وجعلتها جميلة في عينيه قصد في نعمته الغنية ان يزينها أكثر فكشف لها عما يخالج قلبه بقوله لها "نضع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة، فهو الذي ابتدأ فيها عملا صالحا ولا بد ان يكمله إلى يوم مجيئه.


يرى البعض ان المقصود "بسلاسل من ذهب مع جمان من فضة" هو تاج من الذهب مرصع باللآلئ الفضية، وأنه يؤيد ذلك ما جاء في سفر حزقيال: "وضعت. . . تاج جمال على رأسك فتحليت بالذهب والفضة"(حزقيال ١٦) ومعنى هذا ان سبط يهوذا الملكي سيلبي يوما  تاجا زاهيا في أرض الرب في المدينة المقدسة أورشليم.


إن في سلاسل الذهب والجمان من الفضة صورة رمزية للنعمة والبر الإلهيين.. إن الذهب يرمز إلي كل ما هو إلهي والفضة ترمز إلي الفداء .


ان الرب له المجد يريد ان يكون المؤمن متحليا ومزينا بكل الفضائل المسيحية وناميا باستمرار في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح، لان هذه المعرفة "هي خير من الذهب المختار وكل الجواهر لا تساويها" ولابد ان تأتي سريعا . إن ذلك العريس المبارك الذي كلل مرة بإكليل الشوك يضع بيده المباركة على رأسها (عروسته : كنيسته) إكليلا مرصعا ليس بجمان من فضة ولكن تاجا مرصعا بلآلئ المجد الذي لا يبلى.


* * *


ومما هو جدير بالملاحظة قوله "نصنع" بصيغة الجمع، فان فيه إشارة إلى عمل الثالوث الأقدس كقوله عند الخليقة "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا"(تكوين ١ / ٢٦)  .

وفي قوله "نصنع" دليل على اهتمام الله الثالوث الاقدس (الآب + و الأبن + و الروح القدس) بأمر الإنسان الساقط، وأعداد الفداء الكامل له ، هذا الفداء الذي هو أساس ما يتمتع به المفديون في الحاضر وفي الأبدية من بركات وأمجاد تفوق حد الإدراك.

ولو تأملنا نجد ان الثالوث الاقدس (الآب + و الأبن + و الروح القدس) مشترك (مشتركون) في إتمام ذلك الفداء العجيب :

 فالله الآب "قد بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به"(يوحنا ٣ / ١٦) 

 والله الابن "بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل أثم" ، 

 وكذلك الروح القدس ، 

فالثالوث بأكمله له شان في الفداء كما هو مكتوب عن المسيح. 

"الذي بروح أزلي قدم نفسه لله" ( رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ٩ / ١٤)  فيالها من نعمة عجيبة ان الله العظيم - الآب والابن والروح القدس -  قد أهتم بفداء الإنسان المسكين الذي لا يستحق شيئا من الإحسان . وأننا نرى في السلال من ذهب والجمان من فضة صورة رمزية للنعمة والبر الإلهيين كما إلى عمل الفداء، ذلك لان الذهب يرمز إلى كل ما هو إلهي، كما ان الفضة ترمز إلى الفداء.





12 ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته

إذ ملك ربنا يسوع المسيح بالصليب، ساكبًا حياته من أجلها (الكنيسة) ، تقدمت الملكة (الكنيسة) إليه ترد الحب بالحب، فتقدم حياتها ناردينًا خالصًا، تسكبه عليه، فتفوح رائحته حيثما يكرز بالإنجيل ( والناردين هو السنبل الرومي وهو كثير الثمن لذكاء رائحته ولقلة وجوده).


على مائدة الرب أو مذبحه يلتقي الملك بالملكة ، فتُقدم الملكة ذبيحة الملك نفسه ، رائحة ذكية مقبولة لدى الآب ، وتُحسب ذبيحته ذبيحتها، ورائحته ناردينها! لأن كل ما قدمه الملك على الصليب إنما قدمه باسم الكنيسة ولحسابها. لهذا أُعطى للملكة أي الكنيسة أن تُقدم ذات ذبيحته، كرائحة ناردين حب الملك للملكة وحب الملكة للملك.


 ما دام الملك في مجلسه = 

ان المقصود بهذه العبارة هو "ما دام الملك جالسا أو متكئا على مائدته فالناردين الذي لي تنتشر رائحته الذكية" .  هنا نرى مشهدا جديدا، أنه ليس مشهد الراعي وقطيعه ،  ولا هو مشهد الحرب والجهاد  ولكن  نرى "الملك جالسا على مائدته" . وهل توجد مائدة أشهى وألذ من مائدة الملك العظيم؟ مائدة الملك لا مثيل لها ولا سيما لأنه بنفسه جالس عليها وبيمينه يقدم من أطايبها لخاصته المحبوبة. 


ان إنسان العالم لا يستطيع ان يتذوق أو يدرك قيمة هذه البركات التي  أعدها الملك على. مائدته لأنها بركات روحية لها قيمتها الغالية لدى محبي الرب يسوع المسيح و لكنه مع مائدته التي اعدها لنا ملأها بجسده و دمه كما انه لم يكتفي بذلك ، فمع جسده و دمه قدم لنا  الروح القدس الذي أتي بنا إلى "قدس الاقداس" و منحنا البركات الروحية والشركة الحية الحلوة والجميلة مع رب المجد ، ملك الملوك و رب الارباب .


ان كلمات العروس هذه تذكرنا لأول وهلة بما حدث في بيت عنيا بعد إقامة لعازر من الأموات (يوحنا ١٢ / ١ - ٨ ) ففي العشاء الذي اقيم للرب يسوع المسيح  كسرت مريم قارورة الطيب الخالص والكثير الثمن ودهنت به جسد الرب يسوع . و مريم تعطينا صورة جميلة للقديسين الممتلئة قلوبهم و عواطفهم بمحبة خاصة  للرب .


من امتلئ بالرب فهو لا يشبع الا به ، تماما مثل مريم أخت مرثا ولعازر التي اصبحت تجلس عند قدمي الرب لتسمع كلامه و تتعلم منه  ، لقد شبعت بأقوال النعمة الخارجة من فمه و هان عليها ان تسكب ذلك الناردين النقي على قدمي المخلص المبارك حتى امتلأ البيت من رائحة الطيب. لقد ظن البعض وفي مقدمتهم يهوذا الأسخريوطي ان هذا كان إتلافا، ولا ريب في ان ذلك الطيب كان من ناردين خالص كثير الثمن، ولو أنه سكب على غير قدمي الرب لكان ذلك في الحقيقة إتلافا، ولكن إذ سكبته على قدمي المخلص الغالي فقد سجل لها بفمه الكريم بأنها "عملت ما عندها"  "قد عملت بي عملا حسنا. . . الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها" (متي ٢٦ / ١٠ و ١٣).


متي كان للرب مكانة في قلوبنا عندئذ ينسكب الطيب عند قدميه تعبدا له.  "أمامه شبع سرور . و  هذا ما تقدمه الكنيسة خلال سرّ المذبح! وإذ هي ترفع القرابين لله تقدم نفسها له قربانًا!


* * * 

أفاح نارديني رائحته = 

ان الرب يدعونا لذكرى موته فوق الصليب قائلا "أصنعوا هذا لذكرى" ونحن إذ نجتمع في يوم الرب أي "في أول الأسبوع"  لنشترك في "مائدة الرب"  فنكسر الخبز الذي "هو شركة جسد المسيح" ونشرب "كأس الرب" التي "هي شركة دم المسيح" ونتغذى ونشبع من وليمته المباركة "عشاء الرب" ، و تفيض قلوبنا سجودا وتسبيحا وترنما لمن أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. 


ويا لها من كلمة حلوة "نارديني" فمع ان العروس في ذاتها لا تملك شيئا، وما الناردين الذي معها إلا من هبات العريس لها ومن "ثمر الروح" الساكن فيها إلا أنها تعتبر ان تلك الهبات أصبحت ملك لها، و تعود فتقدمها له "لان منك الجميع ومن يدك أعطيناك".


ان كنا في مطلع إصحاحنا قد وجدنا العريس "بأدهانه الطيبة"  فها نحن في النهاية نرى العروس "بناردينها"  لكن هذا الناردين الذي بين يديها هو من نعمتة، الملك في مجلسه، والمائدة مائدته والناردين والأدهان كلها له "ترتب قدمي مائدة تجاه مضايقي. مسحت بالدهن رأسي. كأسي ريا"(مزمور ٢٣).






13 صرة المر حبيبي لي. بين ثديي يبيت


ان في وصف العريس بأنه "صرة المر" إشارة إلى أنه "رجل أوجاع ومختبر الحزن" (أشعياء ٥٣ / ٣) نعم لقد كان سيدنا وربنا يسوع رجل الآلام في حياته وفي مماته، وللمر علاقة به من بدأ حياته وإلى ختامها، فبعد ولادته أتى المجوس مقدمين له الهدايا ومن بينها المر.

وعند موته، وهو فوق الصليب، لما قال "أنا عطشان" أعطوه خلا ممزوجا بمر، وما أعمق هذا التعبير "صرة المر" فكان كل أنواع الآلام والأحزان قد اختبرها ، تبارك اسمه في حياته وفي موته أيضا "مجربا في كل شيء مثلنا بلا خطية" ، والعروس قد أدركت هذه الحقيقة فزادها ذلك تعلقا به لذا تقول عنه "صرة المر حبيبي لي" أي ان هذا الحبيب هو حبيبها وهي قد امتلكته. 

قد يحسب الغير ذلك مغالاة منها، ولكنها لا تبالي بل بجرأة مقدسة  تقول "حبيبي لي" وما دام لي وأنا قد امتلكته فأني سأحتفظ به كصرة المر ولا أجد مكانا يليق له لأضعه فيه سوى قلبي وأحشائي لذا.


إن كان قد تألم لأجلها ومات فإنها تتقدم إليه بالمرّ الذي يُستخدم في دهن المسحة وفي الأطياب... تدخل معه إلى القبر تحمل المرّ لتكفين جسده.


لقد أدركت الملكة أن عريسها هو الملك "قاهر الموت" لا يستطيع القبر أن يمسك به ولا أبواب الهاوية أن تحجبه... عرفته أنه "القيامة" واهب الحياة . 


ان النفس التي اتكأت على مائدته وتلذذت بأطايبه و ابتهجت بطلعته البهية ففاضت ينابيعها بالسجود والتعبد له لا بد - علي مثال العريس (يسوع المسيح) - ان تحمل في كل حين رائحة المر الذكية في كل مكان وفي كل وسط توجد فيه "شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين وظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان. لأننا رائحة المسيح الذكية لله" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ٢ / ١٤ - ١٥)  ويجب ان نتأكد تماما من هذه الحقيقة وهي أننا لا نستطيع ان نكون شهودا أمناء له ما لم نكن أولا في حالة الشركة معه والتلذذ والشبع به والتعبد له، فالشهادة الصحيحة له يجب ان يسبقها الشركة معه والسجود له " 


ملحوظة : استخدمت الملكة عبارة "صرة المرّ حبيبي ليّ"، لأنه بحسب الشريعة كل شيء غير مربوط أو مغلق يكون دنسًا (عدد ١٩ / ١٥) ، والنفس التي تلمس ما هو دنس تتدنس. أما يسوع فليس فيه عيب قط، بل كل ما فيه طاهر ونقي... تتلامس معه النفس فتتقدس.


بين ثديي يبيت =

في قلبي يستريح .  

على صدري بجانب قلبي يبيت. قلبي هو موضع راحته

ان في قول العروس "يبيت" (أي يستريح كل الليل" إشارة إلى العلاقة الروحية )

"بين ثديي يبيت".. لعل هذا التعبير مأخوذ عن عادة قديمة حينما كانت الزوجة تعلق في عنقها ما يشبه السلسلة بها صورة صغيرة لزوجها الغائب علامة حبها وولائها له. وكانت هذه الصورة تستقر علي صدرها (بين ثدييها).


و للملك ثديان هما العهد القديم والعهد الجديد، بهما تتغذي الكنيسة، كذلك فإن عروسه لها ذات الثديان. فكتاب الله هو كتاب الكنيسة، يفرح الرب حين يجد كنيسته تقدم للعالم كلمته غذاء للنفوس كأم تطعم صغارها من ثدييها .





14 طاقة فاغية حبيبي لي في كروم عين جدي

طاقة فاغية حبيبي لي =

يعتقد البعض ان الفاغية هي غصن الحناء يزرع مقلوبا فيخرج زهرا أطيب من الحناء وفي هذا نرى صورة جميلة لعمل ربنا المبارك الذي أخلى نفسه آخذا صورة عبد، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لقد نـزل إلى أقسام الأرض السفلى _ "إلى تراب الموت" (مزمور ٢٢ / ١٥). هو حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت فأتت بثمر كثير، نعم لقد مات ربنا المبارك وقام أيضا فأتى بثمر كثير ونحن ثمر عمله، وكلمة "فاغية" باللغة العبرية هي "كوفر Copher" بمعنى كفارة، وتبارك اسم إلهنا لان ربنا يسوع المسيح الذي مات وقام من بين الأموات بمجد الآب "هو كفارة لخطايانا" (رسالة يوحنا الرسول الأولى ٢ / ٢).


رأينا في العدد السابق ان العروس قد شبهت عريسها "بصرة المر" 

وها هي تشبهه الآن "بطاقة الفاغية" أي بحزمة من زهر الحناء .


ان كانت "صرة المر" تشير إلى آلام المسيح وموته كمن "أسلم من أجل خطايانا" ( "المسيح على صليب الجلجثة" )  فان " طاقة الفاغية " تشير إلى المسيح في القيامة  أي "كمن أقيم لأجل تبريرنا".  

نعم ان صرة المر، وطاقة الفاغية المزهرة يعيدان إلى أذهاننا آلام الصليب ومجد القيامة ويقوداننا لان نفكر في ذاك الذي بذل نفسه لأجلنا والآن نراه مكللا بالمجد والكرامة .


 وإن كان الملك يمسك بصليبه كصولجان ملكه، فإن الملكة تمسك بعريسها في يدها وتطبق عليه فترتسم سماته وعلامة ملكه عليها... أي تحمل اللون الأحمر. إنها لن تكون ملكة ما لم تحمل علامات الصلب والبذل، وتصير حمراء كعريسها. هذا هو سرّ قوتها، وسرّ عرسها وجمالها... لهذا يناجيها الملك قائلًا:


"هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي،

هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ،

عَيْنَاكِ حَمَأمَتَانِ" (الأية ١٥).


نري العروس هنا  تطبق يدها علي عريسها ( الطاقة الفاغية أي حزمة زهر الحناء ذات اللون الاحمر) فتنطبع اثاره عليها (لون الحناء الاحمر) كما تحمل رائحته الذكية التي  تنتشر في الأرجاء الفسيحة فيتعطر الهواء برائحته المنعشة .  تقبض العروس على حزمة من زهر الحناء ليلة عرسها فتصبغ يدها بلون أحمر ويصبح ليدها رائحة حلوة يوم زفافها. العروس هنا حملت علامات الصليب (اللون الأحمر) في يدها وصارت لها الرائحة الزكية (حمل الصليب).


* * *


"في كروم عين جدي" =

عين جدي هي واحة علي الشاطئ الغربي للبحر الميت وتبعد 35 ميلا عن أورشليم). 

العروس لا تكتفي بالشهادة لعريسها المقام من بين الأموات، ولكنها أيضا تشير إلى المكان الذي تستطيع النفس ان تتمتع فيه بعشرته السعيدة ،  "في كروم عين جدي" ،  وقد قيل ان عين جدي كانت يوما ما شهيرة بثمارها الوفيرة وأطيابها النفيسة،  فكان يتوفر فيها كل ما هو جميل للعين وحلو في المذاق وذكي الرائحة للأنف ، ولا عجب ان كانت النفس تشبع بألذ الثمار وتنتعش بأنفس الأطياب في حضرة ذلك الحبيب (الرب).


ليتنا نوجد ونعيش في جو الشركة المقدسة مع الله  فنتمتع بملء الشبع والهناء لان أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد  "يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم"(مزمور ٣٦ / ٨).


لقد اشتهرت كروم "عين جدي" بحادث تاريخي قديم، فان داود ورجاله قد اختبأوا فيها عندما كان شاول يطارده (سفر صموئيل الأول ٢٤ / ١ - ٤) ففي ذلك الوادي الحافل بالثمار والأزهار توفر المخبأ والغذاء والترفيه عن نفس الملك مسيح الله وعن أصحابه الذين وقعت قرعتهم معه، وما أحلى الشركة مع المسيح سواء في أوقات الراحة والسرور أو في أوقات التعب والألم، في النهار كما في الليل، أعني ليس في أوقات الراحة فقط نتمتع بالشركة مع الحبيب بل وفي أوقات العمل والجهاد في النهار "في الكروم".


عندما ننشغل في حراسة كروم الغير فهناك الخطر من إغفال حالة نفوسنا  ولكن عندما نكون عاملين مع الرب الحبيب ولأجله فان الشركة معه والانحصار في محبته والتفرس فيه تؤول إلى النجاح الروحي والنمو في النعمة.





15 ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة. عيناك حمامتان

للمرة الثانية يدخل العريس الملك في حوار مع عروسه. في المرة الأولى كان يحثها أن تتعرف على ذاتها وتدرك أنها "الجميلة بين النساء" (لآية ٨) ، أما الآن فهو يُناجيها مؤكدًا لها: "ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة" ، وكأنه يقول لها أن سرّ جمالها هو اقترابها إليه، بعد أن أقترب هو منها ونزل إليها.


أليس عجبا ان يتغنى العريس بجمال عروسه التي شهدت عن نفسها بأنها سوداء؟  "ها أنت جميلة. ها أنت جميلة"  فمن أين أتاها هذا الجمال؟ هل ورثته عن أبويها؟ "هأنذا بالأثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي"(مزمور ٥١ / ٥ ) أهو جمال طبيعي فيها؟ "كل الرأس مريض وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية. . . "(أشعياء ١ / ٥ - ٦ ) "فأني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح"  إذا كيف استطاع العريس ان يراها جميلة ؟ 

الجواب واضح وبسيط فهو قد مات لأجلها وحمل خطاياها في جسده على الخشبة، ودمه قد طهرها  ، "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل مقدسة وبلا عيب" (أفسس ٥ / ٢٦ - ٢٧)  "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه" (رؤيا يوحنا ١ / ٥ - ٦) .


المسيح له المجد، لأنه أحبنا وقد صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا لا يمكن ان يرى فينا شيئا من صورتنا القديمة ،  "الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ٥ / ١٧). 


ثم لنلاحظ قوله "ها أنت جميلة" فهو لا يقول أنك ستكونين جميلة في المجد ولكن ها أنت جميلة من الآن. 

صحيح أننا كنا أمواتا بالذنوب والخطايا التي سلكنا فيها قبلا ولكن الله الغني في الرحمة أحيانا مع المسيح وأقامنا معه وأجلسنا معا في السماويات في المسيح يسوع (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس ٢ / ٥-٦ ) "لأنكم قد متم  وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" .

هذه هي الحالة التي صرنا فيها الآن أمام الله وبنعمته، ولولا أنه لم تبق فينا ذرة من الصورة البغيضة الأولى بل صرنا في كمال الجمال ،  جمال المسيح نفسه (حزقيال ١٦ / ١٤)  لما كان ممكنا ان يرانا الله في نفس الكمال والقبول الذي للمسيح الجالس عن يمينه. ما أمجد وما أسمى هذا الحق الثمين، وما أحوجنا ان نتحققه وان نتمتع به من الآن!


واضح ان العروس أصبحت جميلة في عيني عريسها على أساس عمله المبارك إذا أسلم من أجل خطاياها وأقيم لأجل تبريرها، فقد صار هو برها، غير أننا نرى من الوجهة العملية صورة أخرى لجمالها، فهي لأنها كانت قريبة منه متمتعة بالشركة معه، ومتكئة على مائدته، وقد أفاح ناردينها رائحته العطرية،  فأنعشت به حبيبها ولأنها تمتعت بحبيبها وبمحبته وحلوله بالإيمان في قلبها ، ولأنها ترنمت بمحبته وصفاته الكاملة وحملته في يديها كطاقة الفاغية مخبرة بفضائله وبغنى نعمته فقد أكسبها كل ذلك جمالا خاصة إذ انعكس نوره وبهاؤه عليها فملأ قلبه فرحا بها "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما في الرب الروح"(رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ٣ / ١٨)  فهلا نطيل المكوث في حضرته والتفرس في جماله حتى ينطبع هذا الجمال في حياتنا؟


* * *

عيناك حمامتان = 

ان ما نعرفه في كلمة الله عما يرمز إليه الحمام له أهميته البالغة.

 فمن الإصحاح الثامن من سفر التكوين، حتى في أزمنة العهد الجديد تشغل الحمامة مكانا هاما في الكلمة، فنراها أولا في صلتها بفلك الله وورقة الزيتون، والأول رمز للخلاص والأخرى لسلام الله، فلما كانت مياه الدينونة لا تزال على الأرض لم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت إلى الفلك لان العالم الذي تحت الدينونة ليس مكان راحتها، كما أنها رجعت إليه في المرة الثانية وفي فمها ورقة زيتون خضراء، ثم إذ نتقدم في التاريخ نرى الحمامة كانت بمقتضى حكم الناموس تقدم ذبيحة لله، فهي من هذه الناحية رمز للرب يسوع المسيح، كما أنها رمز للروح القدس (يوحنا ١ / ٣٢)  ويقال أيضا ان الحمامة إذا غابت عن أليفها تجلس في وحدتها وتهدر نائحة  "أهدر كحمامة" (أشعياء ٣٨ / ١٤)  ،  من هذا كله نرى ان الحمامة ترمز إلى البساطة والطهارة والتسامح والأمانة فحينما تكون عين المسيحي بسيطة كعذراء مثبتة أبدا على المسيح، حينئذ يمكن ان يقال "لك عينا حمام"  "فكونوا بسطاء كالحمام" (متي ١٠ / ١٦).


يرى السيد المسيح الملك في الكنيسة جمالًا لا يشيخ، سرّه العينان الحمامتان، فقد حلّ فيها الروح القدس - الذي يظهر على شكل حمامة - ووهبها استنارة داخلية أو بصيرة روحية.


أن عيني الحمامة تُشيران إلى القلب العفيف النقي . يري السيد المسيح في كنسيته جمالا سره يكمن في العينين الحمامتين بعد أن حل عليها الروح القدس الذي يظهر علي شكل حمامة، ووهبها استنارة داخلية.. ولماذا العينان حمامتان؟ لأنهما ينظران ويدركان بطريقة روحية.. إن العينين هنا يشيران إلي عيني القلب وليس إلي العينين الجسديتين.. والعينان البسيطتان تشيران إلي بساطة القلب في التعامل مع الاخرين كما يقول الرب " كونوا بسطاء كالحمام"..





16 ها أنت جميل يا حبيبي وحلو، وسريرنا أخضر

ها أنت جميل يا حبيبي وحلو =

هنا سرّ الوحدة : إذ صار للنفس عيني حمامة ، تتطلع إلى أسرار الله بالروح القدس، وتدرك جمال عريسها،  فتدخل معه في اتحاد أعمق ، ~ إذ تُناجيه، قائلة:

"هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ، وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ. (الآية ١٦).


ما أكبر الفرق بين معرفة العريس (يسوع المسيح) المعرفة الشخصية وبين المعرفة عنه، فالنفس التي تعرفت به تخاطبه مع العروس "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو" ، "أنت أبرع جمالا من بني البشر" أما النفس التي لم تعرفه المعرفة الصحيحة فلا ترى فيه شيئا من الجمال.


بالروح القدس تطلعت الكنيسة إلى عريسها الملك فرأته بحق جميل في محبته وحلو، وكأنها أدركت أن كل جمال فيها إنما يرجع إليه. 

وكان من ثمرة هذا الإدراك الروحي لجمال الملك العريس وعذوبة أعماله الخلاصية أنها (الكنيسة) دخلت معه في اتحاد أعمق، وهي بعد مرتبطة بالجسد في هذا العالم، فقالت:

"سَرِيرُنَا أَخْضَرُ" .

* * *

سريرنا أخضر =

في السرير رمزا جميلا للشركة الهادئة مع ربنا المبارك وراحة النفس الناشئة عن الوجود في القرب منه بمعزل عن ضجيج العالم "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلا" .  

و ما هذا السرير الذي يُنسب للملك والملكة (سريرنا)  إلاَّ الجسد الذي تستريح فيه النفس، والذي يتقبل سكنى الرب فيه . فجسدنا لم يعد بعد ثقلًا على النفس ولا مقاومًا لعمل الله، لكنه تقدس وصار هيكلًا للرب تستريح فيه نفوسنا ويفرح به الرب. فيه يلتقي الله بالنفس البشرية وخلاله تنعم نفوسنا بالشركة مع الله، ويكون لها ثمر الروح... لذلك دعي "أخضر" أي مثمر!


ما أحلى وأشهى الثمار التي تتمتع بها النفس الرابضة في حضرة الراعي المبارك، وهذا ما تشير إليه العروس بقولها سريرنا "أخضر" أنه "في مراع خضر يربضني وإلى مياه الراحة يوردني" (مزمور ٢٣) 


و لنلاحظ قول العروس "سريرنا"  فهي لا تقول "سريري" لأنها لا تستطيع ان تتمتع بهدوء وهناء ولا براحة وسلام بدونه ، 

كما أنها لا تقول "سريرك" ليقينها بان سروره ولذته في تمتع النفس به وتمتعه هو بالنفس "لذاتي مع بني آدم"   

ولكنها تقول "سريرنا" لان قربنا من الرب وشركتنا معه تنشيء سرورا متبادلا وشبعا مشتركا بيننا وبينه "أتعشى معه وهو معي"(رؤيا يوحنا ٣ / ٢٠)  "يلذ له نشيدي وأنا أفرح بالرب" (مزمور ١٠٤ / ٣٤)  يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم" (يوحنا ١٥ / ١١).


والسرير الأخضر يعلن أيضًا "سرّ التجسد" ، فهو جسد الملك، إذ أخذ الكلمة الإلهي مالنا... أخذ بشريتنا، وحملنا فيه. 

هكذا نتطلع إلى جسده كسرير لنا، إذ صار لنا فيه راحة، نرى فيه اتحادنا معه! لقد أثمر جسد الرب طاعة للآب عوض عصياننا، ونقاوة عوض نجاستنا، وغلبة على الشيطان وكل جنوده لحسابنا وباسمنا، بل وتعبد للآب باسمنا، مقدمًا ثمارًا جديدة لحساب البشرية!






17 جوائز بيتنا أرز، وروافدنا سر




(ملحوظة : نسخ الكتاب المقدس التي كتبت فوق الايات من هو المتكلم وضحت ان المتكلم هنا في :  الاصحاح الأول من سفر نشيد الانشاد ، عدد ١٧ ، هو العريس و ليست العروس ... لذا قد يختلف الشرح ، ندعوك للبحث )





جوائز (عوارض)  بيتنا أرز =

لقد كان الهيكل الذي بناه سليمان قديما مركزا لاجتماع يهوه (الله) بشعبه المختار "يرون قدام الله في صهيون"(مزمور ٨٤ / ٧)  وكانت كل أخشاب الهيكل من الأرز والسرو وكذا البيت الذي بناه سليمان لنفسه فأنه عمل أعمدته وجوائزه وسقفه من الأرز ،  والأرز الذي كان يؤتى به من جبال لبنان الشامخة هو أقوى وأمتن الأخشاب حتى قيل عن سليمان أنه "تكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط" وهذا دليل قاطع على ان الأرز خشب عظيم وهائل جدا كما أنه بديع ومتين، وفي هذا نرى ان علاقة الرب بشعبه المحبوب الذي اشتراه لنفسه علاقة متينة  وثابتة لا يمكن ان يؤثر فيها عوامل الحياة المتقلبة "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"(متي ١٦ / ١٨) ،  تبارك اسم إلهنا الذي أعطانا أيضا ميراثا لا يفنى ولا يضمحل ونحن محفوظون بقوته تعالى لهذا الميراث عينه.


وروافدنا سرو =


تُعرف شجرة السرو بقوتها العظيمة ورائحتها الجميلة و السرور هو رمز البهجة والجمال، فآلات الطرب والغناء كانت تعمل من خشب السرو "داود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو بالعيدان والرباب وبالدفوف وبالجنوك وبالصنوج" هذا فضلا عن أنه خشب مشهور برائحته الذكية، فنحن في حالة الشركة مع الرب داخل المقادس نستنشق رائحة السرو ونستمتع بنغمات آلاته المبهجة "أمامك شبع سرور"(مزمور ١٦ / ١١).


* * *


ان الأرز رمز الجلال والعظمة والسرو رمز البهجة والبهاء "الجلال والبهاء أمامه العزة والبهجة في مكانه" (  سفر أخبار الأيام الأول ١٦ / ٢٧).


ان الأرز والسرو يعطياننا صورة جميلة لما ستكون عليه البقية التقية عند رجوعها إلى الرب إلهها .


ذلك ما لا بد ان يتحقق عمليا في الزمن الألفي السعيد تحت سيادة وسلطان الرب يسوع "ملك الملوك ورب الأرباب" عندئذ يتمتع ذلك الشعب الأرضي بملء البركة والابتهاج "لأنكم بفرح تخرجون وبسلام تحضرون. الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنما وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي. عوضا عن الشوك ينبت سرو. . . ويكون للرب اسما علامة أبدية لا تنقطع"(سفر إشعياء ٥٥ / ١٢ - ١٣) "مجد لبنان إليك يأتي السرو والسنديان والشربين معا لزينة مكان مقدسي وأمجد موضع رجلي"(سفر إشعياء ٦٠ / ١٣).


* * *


وفي قول العروس "بيتنا" صورة جميلة للوحدة المباركة التي صارت لنا مع رأسنا المجيد ربنا يسوع المسيح و إشارة إلى ان العروس الأرضية تتطلع إلى حالة الاستقرار التي ستحظى بها في سيادة الملك المجيد، فهي لا تتحدث عن خيمة معرضة للاقتلاع بل إلى المسكن الذي تتمتع فيه بشركة مستديمة مع عريسها الممجد.


* * *


إن اختيار كلمتي الأرز و السرو انما هو لغرض فهنا رمز لشعب يسوع المسيح القوي به . فخشب السرو يُستخدم في بناء السفن (حزقيال ٢٧ / ٥) ، ليعبر بهم المؤمنون بيسوع المسيح خلال بحر هذا العالم إلى الميناء السماوي، كما يستخدم  خشب السرو لعمل آلات الطرب ليبعث يسوع المسيح في شعبه روح الفرح والبهجة، ويطفئ عليهم روح الرجاء فيه ، ايضا يُستخدم خشب السرو في صنع الرماح إذ يلزم بالكنيسة أنن تحفظ الإيمان ضد كل هرطقة أو بدعة.


إما عن الأرز فكان يُستخدم في صنع صواري السفن ليقودوا الشعب إلى الميناء الإلهي ،وقد أستخدم في صنع الجزء الداخلي في هيكل سليمان كما في صنع المذبح، ليعلم الكاهن أن رسالته هي بناء بيت الرب الداخلي في القلب فلا يهتم بالمظهر الخارجي أو ينشغل في عمل آخر، وأنه إنما يمثل المذبح، لا عمل له سوى أن يحمل إلى شعب الكنيسة المسيح الذبيح، ويقدم عنهم تقدمة الصلوات. إنه يشهد للصليب ولا يكف عن الصلاة حتى يدخل بالجميع إلى الحياة الأبدية.









تم عمل هذا الموقع بواسطة