تفسير نشيد الانشاد - الكتاب المقدس - العهد القديم -  سفر نشيد الأنشاد -  الفصل / الإصحاح الخامس (٥)


اقرأ النص اولا - ثم يليه الشرح 




 النص


الكتاب المقدس - العهد القديم
سفر نشيد الأنشاد

الفصل / الإصحاح الخامس

 

1 قد دخلت جنتي يا أختي العروس. قطفت مري مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب. اشربوا واسكروا أيها الأحباء

2 أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل

3 قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه ؟ قد غسلت رجلي، فكيف أوسخهما

4 حبيبي مد يده من الكوة، فأنت عليه أحشائي

5 قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرا ، وأصابعي مر قاطر على مقبض القفل

6 فتحت لحبيبي، لكن حبيبي تحول وعبر . نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني

7 وجدني الحرس الطائف في المدينة. ضربوني. جرحوني. حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني

8 أحلفكن يا بنات أورشليم إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه بأني مريضة حبا

9 ما حبيبك من حبيب أيتها الجميلة بين النساء ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا

10 حبيبي أبيض وأحمر. معلم بين ربوة

11 رأسه ذهب إبريز. قصصه مسترسلة حالكة كالغراب

12 عيناه كالحمام على مجاري المياه، مغسولتان باللبن، جالستان في وقبيهما

13 خداه كخميلة الطيب وأتلام رياحين ذكية. شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا

14 يداه حلقتان من ذهب، مرصعتان بالزبرجد. بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق

15 ساقاه عمودا رخام، مؤسستان على قاعدتين من إبريز. طلعته كلبنان. فتى كالأرز

16 حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي، وهذا خليلي، يا بنات أورشليم





الشرح


يعتبر اليهود نشيد الانشاد (أو قدس الاقداس) نشيد رمزي يعكس علاقة الحب المتبادل بين الله و شعبه إسرائيل ، 

تسلمت الكنيسة المسيحية من يدي الكنيسة اليهودية هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم، وقد احتل هذا السفر مركزًا خاصًا بين الأسفار لما يحمله من أسلوب رمزي يعلن عن الحب المتبادل بين الله وشعبه ((المسيح  (العريس) و الكنيسة ("عروسه")) ، أو بين الله والنفس البشرية.





في هذا الفصل / الإصحاح الخامس :

+  الآية ١ : العريس هو المتكلم ... 

(هو يتحدث بكل رقة إلي عروسته و اصدقائه)




(ملحوظة : نسخ الكتاب المقدس التي كتبت فوق الايات من هو المتكلم وضحت ان المتكلم هنا في : هذا الجزء من عدد ١ من الاصحاح الخامس من سفر نشيد الانشاد ،  -- " كلوا أيها الأصحاب. اشربوا واسكروا أيها الأحباء " -- ، هم الاصدقاء و ليس العريس ... لذا قد يختلف الشرح ، ندعوك للبحث)





+ الآيات من ٢ إلي ٨ : العروس هي المتكلمة ...

(و هي  تتحدث عن عريسها ، 

و لكن في الآية ٧ : تتحدث عن  الحرس الطائف في المدينة و ما فعلوه معها 

و في الآية ٨ : توجه العروس كلامها لصديقاتها)


+ الآية ٩ : صديقات العروس (بنات أورشليم) هن المتكلمات ... 

(و هن يوجهن كلامهن للعروس و يعبرن عن تعجبهن من كلام العروس عن عريسها)


+ الآيات من  ١٠ إلي ١٦ : العروس هي المتكلمة ... 

(و هي تحدث صديقاتها عن عريسها و تصف لهم كل جزء فيه بأجمل الأوصاف )





1 قد دخلت جنتي يا أختي العروس. قطفت مري مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب. اشربوا واسكروا أيها الأحباء




(ملحوظة : نسخ الكتاب المقدس التي كتبت فوق الايات من هو المتكلم وضحت ان المتكلم هنا في : هذا الجزء من عدد ١ من الاصحاح الخامس من سفر نشيد الانشاد ،  -- " كلوا أيها الأصحاب. اشربوا واسكروا أيها الأحباء " -- ، هم الاصدقاء و ليس العريس ... لذا قد يختلف الشرح ، ندعوك للبحث)





كانت آخر عبارة في الأصحاح السابق, قول العروس لعريسها " ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس".. و ها هو جواب العريس على دعوة عروسه التي وجهتها إليه في ختام الإصحاح السابق "ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" ، فما لبث العريس أن أسرع بتلبية هذه الدعوة بلا أدنى تردد – لماذا؟

*لأن هذه الدعوة جاءت مطابقة لمشيئته "إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا".

*لأن هذه الدعوة تخص جنته  ، إنها إشارة إلى حياة التسليم الكامل.. فبعد أن قالت العروس لريح الشمال وريح الجنوب " هبّي على جنتي"، أردفت قائلة " ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس"..إنها جنته هو. فكل الغروس في هذه الجنة هي من صُنعه هو دون سواه, وهي ثمار روحه القدوس.  ان ربنا  و الهنا يسوع المسيح له شركة كاملة مع خاصته في كل ما هو من الروح القدس


*يقول العريس "قد دخلت جنتي". ويرى البعض أن هذه الجنة ليست شيئًا آخر سوى صُلبَ و قيامة الرب!! لأن العريس يقول "قطفت مّري.. شربت خمري". أي انه شرب الخمر ممتزجًا بالمر الذي قُدمَ للرب وقت الصْلب ، ثم مات و دفن في القبر و لكنه قام .


* لكننا نتساءل: من هو هذا الذي تدعوه العروس لوليمتها؟

هو عريسها ، هو ذاك الذي " منه وبه وله كل الأشياء" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ١١ / ٣٦) ، هو الذي يفتح يده ويشبع كل حيّ رضى ( سفر المزامير ١٤٥ / ١٦).

إن المائدة التي دعت العروس عريسها إليها هي جنة مغروسة أشجار حية وهي نحن. 


* * *


مرى مع طيبي = 

المر يشير للصليب الذي تحملته في صبر فكان لها رائحة طيبة كالمر. أما الطيب فيشير للدفن  في القبر ثم القيامة.  فهي قد دفنت مع المسيح و قامت معه في المعمودية (موت ثم قيامة) واستمرت ميتة عن خطايا العالم (إماتة) (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ٦ / ١ - ١٤). وكأن أحداث الخلاص ممتدة في حياة عروسه، فهو يرى أن كأس المر و الطيب الذي تشربه إنما هو كأسه. 


قطفت مرى = 

النفس هي التي تألمت ، ولكن العريس يقول مرى لأن كل ألم أو ضيق نتألم به هو واقع عليه فنحن جسده.  ويقول الكتاب "في كل ضيقهم تضايق" (إشعياء ٦٣ / ٩).


طيبى = 

المسيح دُفِن حقيقة و لكنه قام من الاموات ، و كل من اعتمد وظل في حالة موت عن الخطية قد صلب الجسد و سيطر علي الأهواء والشهوات قيل عنه "مدفونين معه في المعمودية" (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ٥ / ٢٤). فمن يدفن جسده أي شهواته الخاطئة  يدفن الخطايا و يقوم مع يسوع المسيح.


أكلت شهدي مع عسلي = 

بالقيامة تمتعتي بالخلاص ، و دخلتي أرض الميعاد أرض الراحة. 


شربت خمري مع لبني = 

الخمر هو خمر التناول الذي به نحصل علي جسد و دم المسيح ، و هو الخمر الذي يسكرنا  بحب  يسوع المسيح فيجعلنا فرحين ، الخمر هو رمز للفرح. فالعريس فرح بعروسه وهي بالرغم من ألامها الأرضية فهي فرحة به .


واللبن = 

هو لبن إيمانها البسيط عديم الرياء  (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس ١ / ٥). وهذا الإيمان ناشئ من تعاليم صحيحة شربناها من كلمة الله. وهذا الإيمان هو مصدر تعليمها لأولادها.


شهدى - لبنى - عسلى = العريس هو مصدر كل فرح = خمرى. 

وهو مصدر التعليم الصحيح الذي تُعَلِّم به عروسه = لبنى. 

وهو مصدر تعزيات العروس وسط ألامها = شهدى. 

العريس هو مصدر كل شيء صالح فينا. 

ونجد العريس هو مصدر كل خير وفرح وتعزية فينا ولكنه يفرح ويشبع إذ لم نفقده بإنجذابنا لشهوات هذا العالم، هو يفرح حينما يجدنا في حالة فرح وتعزية وسط ضيقات هذا العالم، يفرح إذ يجدنا جنة مغلقة لا نفتح حواسنا للغرباء، وعين مقفلة لا نبدد وزناتنا في هذا العالم. ويفرح حينما نقوم بخدمة أولاده بإرشاد الروح القدس، ونعلمهم الإيمان الصحيح الذي تسلمناه من الكتاب المقدس = تحت لسانك عسل ولبن، فنصير ينبوع مختوم.


* * * 


كلوا أيها الأصحاب = 

هم السمائيين.  "يصير فرح في السماء بخاطئ يتوب". 

كلوا أيها الأصحاب" ولا بد ان يجيء الوقت المجيد الذي سوف يشترك فيه كثيرون في تلك الوليمة وفي ذلك العشاء الملكي. سيكون للعريس وقتئذ أصحاب كثيرون "أصدقاء العريس" الذين سيفرحون فرحا كاملا "من أجل صوت العريس" عندما يدعوهم إلى "عشاء عرسه" المجيد. أنه سيكون يوم مجد سماوي للسماويين، كما أنه سيكون يوم مجد أرضي للأرضيين الذين سيوجه الرب دعوته إليهم "كلوا أيها الأصحاب أشربوا واسكروا أيها الأحباء" فالأغصان الطبيعة التي قطعت طويلا من شجرة الوعد سوف تطعم مرة أخرى. في ذلك اليوم _ يوم رجوع أتقياء إسرائيل "يتأصل يعقوب ويزهر ووليمة لجميع الأمم بسبب البقية التقية في رجوعها إلى الرب وإلى أرض البركة.


إسكروا = 

افرحوا بشدة فالخمر تشير للفرح . اللبن والعسل كما رأينا في الإصحاح السابق (آية11) يشيران لأرض الميعاد والمعنى راحة الله في هذه النفس. ونجد هنا أن العريس يضيف الخمر إلى اللبن والعسل إشارة لفرحه بالنفس بالإضافة للراحة.


* * *

ليتنا نتطلع ونمد بصرنا إلى اليوم السعيد حينما يعود السيد والعريس المبارك ليأخذ أولا عروسه السماوية المتلهفة شوقا إليه، وشعبه الساهر في انتظار قدومه ولسان حاله "تعال أيها الرب يسوع" وعندئذ كأنه يجيب على هذا النداء "قد دخلت جنتي يا أختي العروس" عندئذ يكون المسيح وقديسوه الممجدون في السماء، ثم شعبه الأرضي (بعد ذلك) حينا يوجد في أرض الموعد، ثم جميع أمم الأرض في ملك السلام الألفي حينئذ تتم كل المواعيد التي أعطيت للآباء، فيالها من بركة كاملة وشاملة تملأ السماء والأرض! ويا له من ترحيب مبهج من ذاك الذي هو "رب الجميع" قائلا "كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحباء".





2 أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل


أنا نائمة وقلبي مستيقظ = 

نائمة وقلبى مستيقظ = النفس هنا دخلت في حالة فتور، وعلامة الفتور حالة إسترخاء في الجهاد (إذاً لا صلاة ولا تسبيح ولا خدمة ولا بذل ذات). والنائم كسول لا يريد أن يعمل، ولكن محبة هذه النفس محبة نظرية في القلب جعلتها مستيقظة، لكنها لا تريد ان تعمل مع حبيبها. بينما المحبة الحقيقية هي بذل وتعب


وصلنا الآن  في تأملاتنا في هذا السفر إلى قسم جديد يتحدث إلينا عن ناحية اختبارية محزنة، ففي الجزء السابق لهذا القسم رأينا العروس في كمال الغبطة والهناء متمتعة بالشركة السعيدة مع عريسها وحبيبها، الأمر الذي نختبره كثيرا في شركتنا الخاصة وبالأكثر في اجتماعاتنا، ولكن سرعان ما تغير المشهد هنا، فما انتهت الوليمة وفرغت العروس من العشاء حتى تبدل الحال فإذا بها تقول "أنا نائمة" وأننا نرى هذه الصورة بكيفية جلية في العهد الجديد، إذ ما أكبر الفرق بين الرسالة إلى الكنيسة في أفسس، ورسالة الرب لها في سفر الرؤيا ففي الأولى نرى ثمار النعمة الجميلة وعمل الروح القدس في مؤمني أفسس بصورة بهيجة، بينما في الثانية نرى تلك الكنيسة في سقوطها إذ تركت محبتها الأولى. صحيح أنه بقي فيها الكثير من ثمار النعمة التي لم يتجاهلها الرب ولكنها فقدت الينبوع المقدس : المحبة التي يريدها الرب قبل كل شيء.


لقد مر بنا في الإصحاح الرابع من هذا السفر ان العروس هي "جنة". . "ينبوع" . "بئر مياه حية" فقد كانت تتدفق منها عواطف المحبة القوية والغيرة الروحية المقدسة ، الأشياء الحلوة التي فقدتها . لقد كانت نائمة ولكنها مع ذلك استطاعت ان تقول "قلبي مستيقظ" فان الرب لم يزل حبيبها الذي لا زالت تميز صوته "صوت حبيبي قارعا" ولا زالت لديها بقية من العواطف الصادقة من نحوه. أنها لا ترى هنا في حالة شر أو دنس ولكنها في حالة فتور روحي (و ليس موت روحي) "أنا نائمة (ولكن) قلبي مستيقظ" أنها في حالة قلق وعدم اطمئنان، القلب يحن إلى المسيح ولكنها ليست تميل لان تجهد نفسها من أجله، ويا لها من حالة محزنة ان يقف العريس المبارك على الباب ويقرع! ولكنه ليس أمر غريب بكل أسف، فقد يكون المؤمن سليما في قلبه، لكنه إذ يصل إلى حالة التبلد والخمول والنعاس الروحي فان واجباته الروحية تصبح ثقلا على كاهله، فأما أنه يهملها إطلاقا أو أنه يتممها ببرودة، وهذا معنى قول العروس "أنا نائمة (ولكن) قلبي مستيقظ" فلا هي نائمة ولا هي مستيقظة. ضميرها نائم ولكن قلبها في حالة يقظة، ومن ثم فهي لا تجد لنفسها راحة وانتعاشا، وما أتعس حالة كهذه! أنها بكل أسف صورة مؤلمة لكثير من أولاد الله الذين كان ينبغي ان يكونوا مشرقين سعداء وممنطقين أبدا لأداء أي خدمة للمسيح وللنفوس الخالدة.


*** تعليق : 

نحن أمام حالة فتور وليست حالة موت روحي، إنسان أهمل خلاص نفسه وجهاده. قد يكون بسبب سعيه وراء شهوة عالمية.. الخ، ولكن ما زال ضميره حياً. ولكن هناك من يصل لدرجة الموت، موت الضمير فيشرب الإثم كالماء. ولكن حتى هذا فالمسيح قادر أن يقيمه كما أقام لعازر. ودليل أن هذه النفس لها ضمير مازال حياً أنها تحركت حينما عرفت أن الله غاضب منها وحين رأت جراحاته. ولكن مثل هذه النفس تكون إرادتها ضعيفة، ولذلك يوقظها الله بأن يقرع على بابها. ونلاحظ كلمات التشجيع للنفس يا أختي يا كاملتي فالله لا يوبخ بل يقول "أيوب رجل كامل".


أن العروس هنا في حالة فتور في حبه.. هي لا تُرى في حالة شر ودنس ولكنها فقدت قوتها الروحية " أنا نائمة وقلبي مستيقظ". إنها في حالة قلق.. هي تحن إلى المسيح لكنها لا تميل لأن تجهد نفسها من أجله.. إنها في حالة البلّد والخمول الروحي التي معها تصبح الوجبات الروحية تُشكل عبئًا على كاهله.


صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي  =

والآن هيا بنا نتحول إلى الناحية اللامعة المباركة من المشهد الذي أمامنا لنرى هل تغير الرب بسبب تغير العروس.  كان هذا هو موقف العروس: فماذا عن العريس إزاء تصرف العروس ؟ هل تغيرت مشاعر العريس بعد أن تغيرت مشاعرها؟

 إنه يدعوها " حبيبتي " نظرًا للعلاقة الخاصة. ويدعوها " حمامتي " إذ تحمل الروح القدس الذي نزل على شكل حمامة. ويدعوها " كاملتي " أي التي بلا عيب.


ان محبة المسيح نحو عروسه لم و لن تتغير لحظة واحدة . صوت الحبيب هنا يُعاتب في رقة، فلا يجرح مشاعر القلب، بل يشجع عروسه فيدعوها أخته وخليلته وحمامته وكاملته... مع أنها تغط في نومها! لا ينتهرها ولا يوبخها بل يعطيها رجاءً ويشجعها.


أما تكراره السؤال: "اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ..." فربما يوضح الدعوة المتكررة للبشرية في العهدين، القديم والجديد، فإن الله لم يتغير، ولا دعوته قد تغيرت، إذ يطلب أن ينفتح له القلب ويقبله.!


وفي تكرار الدعوة أيضًا إعلان عن كمال حرية النفس، فهو الخالق والسيد والملك لكنه لا يقتحم النفس إقتحاما، إنما يتوسل إليها أن تنفتح له...  ففي سفر الرؤيا نراه يقول "هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤيا يوحنا ٣ / ٢٠)، حتى عندما تقدم إلى تلاميذه ماشيًا على البحر وسط الهياج الشديد لم يقتحم سفينتهم.


برغم من فتور محبة العروس ، وان كلمات العروس نفسها تؤيد هذه الحقيقة ، و مع أنها كانت نائمة لكنها استطاعت ان تعرف شخصه، وتميز صوته داعية إياه "حبيبي" نعم ما تزال فيها الحياة التي تستمع إلى ذلك الصوت برغم خيبتها فتقول "صوت حبيبي قارعا. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي" وهنا نرى صورة المؤمن المسكين المتغير كما صورة المخلص الذي لن يتغير.


حقا ان كلمات العريس لعروسه الواهنة الضالة ،  كلها محبة صابرة مؤثرة، فعوض ان يتهمها بالجحود والجمود ، نراه يخاطبها بأعذب العبارات وأرق الكلمات أكثر من أي مناسبة أخرى قائلا لها "افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي" أنه ما من مرة قبل هذه خاطبها بمجموعة كهذه من أساليب الإعزاز والمودة، أو ليس عجيبا ان يناديها بهذه الكلمات "يا كاملتي" أي أنها الكاملة التي لم تتدنس قط؟ كان الرب قد أحتفظ بهذه الصفة ليوم فشلها العميق وخيبتها الواضحة، كما أنه لم يسبق إشارة من قبل إلى "الطل" الثقيل أو إلى "ندى الليل" الذي غطاه وهو في طريقه إلى العروس، فكأنه يتوسل إليها بحق ما عاناه في هذا الطريق، وما أعظم ما يتوسل به فكأنه يتوسل إليها بما قاساه لأجلها من أحزان جثسيماني ومن وحشة الجلجثة. أنه يناشدها بحق عظمة حبه الذي لم يعطيه شيئا مما لاقاه في ذلك الطريق المرسوم أمامه. هذه هي محبة المسيح للضال العاثر ليتنا ننعم النظر فيها، وليتنا نقدر ذلك القلب الفريد الذي ليس فيه "تغير أو ظل دوران"، فنـزداد قربا إلى ذلك القلب المحب الودود الذي لا يتغير



لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل = 

إنه يتوسل إليها أن تفتح " لأن رأسي امتلأ من الطلّ وقصصي من ندى الليل " وكأنه يتوسل إليها بما احتمله من آلام وأحزان في جثسيماني والجلجثة.. لقد دخل المسيح جثسيماني ليلًا، وها هو يأتي إلى عروسه في الليل، ورأسه امتلأ من الطل وقصصه من ندى الليل..


إنه يُناجيها ويطلب أن تفتح له من أجل ما أحتمله بسببها في تلك الليلة العاصفة الممطرة، فقد امتلأ رأسه من الطل وقصصه من ندى الليل... تحمل الأم الصلب في جسده ،  "أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا، وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَأمِنَا وتَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إشعياء ٥٣ / ٤ - ٥).


كان الروح القدس يقود شعب الله في البرية على شكل عمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا. وما زال الروح القدس يقود شعب الله يعزى نهارا (من هم حارين بالروح). ويبكت ليلا (من هم في الخطية أو في فتور)، إذ أن عمود النار كان في محلة إسرائيل طوال الليل وهم نائمون خلال رحلتهم في البرية.

وهنا نجد نفس الصورة، الروح يسعى وراء هذه النفس النائمة أي التي لا تسهر على خلاص نفسها يبكتها ويحكى لها عن محبة عريسها وفدائه. والروح القدس يسعى وراء كل نفس ولكن لا يسمع صوته إلا من كان قلبه ما زال مستيقظا، أي لم يصل إلى درجة أن الروح قد إنطفأ عند هذا الشخص.


أما هي فنراها في الآية التالية تقدم اعتذارات بشرية غير لائقة، وتحدثت بغير اكتراث، فلم تدعوه ربها أو سيدها، ولا حتى نادته باسمه، ولا ذكرت أحد ألقابه، بل قالت:

قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه ؟ قد غسلت رجلي، فكيف أوسخهما (الآية ٣)






3 قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه ؟ قد غسلت رجلي، فكيف أوسخهما


يا لها من أعذار واهية تقدمها النفس في فتورها الروحي وتنشغل . براحة جسدها 

 إنه يتوسل إليها أن تفتح " لأن رأسي امتلأ من الطلّ وقصصي من ندى الليل " وكأنه يتوسل إليها بما احتمله من آلام وأحزان في جثسيماني والجلجثة.. لقد دخل المسيح جثسيماني ليلًا، وها هو يأتي إلى عروسه في الليل، ورأسه امتلأ من الطل وقصصه من ندى الليل..

لكن العروس قدمت اعتذارات واهية " قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه. قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما".. ما أوهى ما تقدمه النفس من اعتذارات في وقت فتوره.. لقد تشبهت بالذين قدموا أعذارًا لكي لا يحضروا العرس في مثل عرس ابن الملك (مت 22: 5).. إن كانت قد خلعت ثوبها فالمسيح هو ثوب البرً الذي يسترنا " قد لبستم المسيح" (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ٣ / ٢٧).. " البسوا الرب يسوع المسيح" . إنه هو الذي يلبس الضال بعد عودته الحلة الأولى (لوقا ١٥ / ٢٢).. إنه الثوب الذي قال عنه زكريا النبي " قد أذهبت عنك إثمك، وألبستك ثيابًا مزخرفة" (سفر زكريا ٣ / ٤).


إن كانت قد خلعت ثوبها، فهو يعطيها روحه لكي تلبسه، كسرّ حياة فيها، إذ يؤكد على تلاميذه: "ها أنا أرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لوقا ٢٤ / ٤٩). 


إن كانت قد غسلت رجليها ولا تريد أن توسخهما، فلتعلم العروس أن القارع على الباب هو سيدها الذي تمنطق وغسل الأقدام.. هي غسلت رجليها جسديًا أما غسل الرب فهو من نوع آخر على نحو ما قال لبطرس حينما امتنع عن أن يغسل المعلم رجله " إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب" (يوحنا ١٣ / ٨).. (إن غسل الأرجل رمز للتطهر مما يلحق الإنسان من خطايا طالما هو يعيش في الجسد. لأن ذرات التراب اللاصقة رمز للخطايا التي تلحق بنا دون أن نشعر).





4 حبيبي مد يده من الكوة، فأنت عليه أحشائي


حبيبي مد يده من الكوة =


من الكوة = 

كان للبيوت في ذلك الوقت فتحة فوق القفل لإدخال المفتاح، وتتسع لإدخال اليد، وكانت توجد فتحة أخرى يطل منها الساكن ليتكلم ويرى القارع (شراعة). 


حبيبي مد يده = 

كانت نتيجة عدم إنصات النفس إلى صوت حبيبها، الذي أعلن حبه لها بطرق متنوعة ، أنه مدّ يده من الكوة (فتحة الباب   - يده التي بها أثر مسمار الصليب) حتى ترى آثار جراحات الحب التي احتملها من أجلها، وكانت النتيجة أن أحشائها أنّت عليه.. 

حينما مد يده أي أظهر آلامه وأدركت العروس أن كل هذا بسببها تحركت عواطفها نحوه.


هذا هو عمل الروح القدس الذي يبكت (يوحنا ١٦ / ٨ - ١١).


 فأنت عليه أحشائي = 

لقد سمعت العروس (الكنيسة / النفس البشرية)  صوت عريسها (يسوع المسيح) و هو يقرع على الباب قبلا إلا أنه لم يكن مائلا أمامها فلم تجيبه و لم تهتم ، ولكن عندما مد يده فأنه لم يسمعها صوته فقط بل إظهر لها ذاته، وهذا ما حرك عواطفها، إذ ليس شيء يستطيع ان ينهض النفس وينتشلها من سقوطها وفشلها نظير إظهار الرب ذاته لها. أنها رأت جروحات يده فتغيرت حالتها "فأنت عليه أحشائي". لقد كان التلاميذ في حالة الرعب والخوف من اليهود، ولكن إذ ظهر الرب لهم وأراهم يديه وجنبه "فرح التلاميذ إذ رأوا الرب". هكذا يمد الرب يده المجروحة خلال الكوة ليكتشف مؤمنوه سرّ محبته فتئن أحشاؤهم عليه. 





5 قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرا ، وأصابعي مر قاطر على مقبض القفل


قمت لأفتح = 

لقد إستجابت له اخيرا كما إستجاب الابن الضال. 


ويداي تقطران مراً = 

المر طعمه مر ورائحته حلوة. فهي راجعة بتغصب بعد استهتار وفتور، عادت بدموع توبتها الحقيقية وفيها ألم وتغصب للنفس، فيها قبول لأن تموت مع المسيح تاركة لذات العالم وشهواته الخاطئة. ولكن هذا الألم وهذا التغصب (= الجهاد) له رائحة طيبة أمام الله فهو الذي دعانا إليه ليكون لنا نصيب في ملكوت السموات (متي ١١ / ١٢). 

ولكن حالة التغصب لا تستمر كثيراً، فسرعان ما يعزي الله النفس فتكتشف أن ما تركته ما هو إلا نفاية بجانب معرفة المسيح التي اكتشف بولس الرسول أنها الأفضل ).


 ولاحظ أنها تغصبت ومنعت نفسها عن ملذاتها = يداها تقطران مر اً= وهذا التغصب اشتمه الله كرائحة حلوة.


* * * 


هل من شيء يشبه الدموع حلاوة ومرارة معا؟ وهل يمكن ان يمتزج النوعان معا: دموع المرارة ودموع الفرح؟ ثم أي شيء أمر مذاقا من المر وأي شيء أحلى رائحة من المر القاطر الذي تفوح رائحته العطرية؟ ان المر يشير بلا شك إلى الدموع التي نرى فيها العروس ترد صدى محبة العريس لها. "قمت لأفتح لحبيبي" فهي تنهض من سباتها الروحي. لقد كانت خطيتها في عدم فتحها الباب لحبيبها وهو يقرع سبب مرارة في نفسها، لكنها مرارة ممتزجة بعاطفة حارة من نحو من تغاضت عنه، ولما وصلت إلى الباب وجدت المشهد كله معطرا بعطر حضوره، فإذ وضعت يديها على مقبض القفل إذا بهما "تقطران مرا وأصابعها مر قاطر".


أما وقد تيقظت العروس وتنبهت إلى ما كان منها وإلى ما فعلته، فقد امتلأت نفسها بحزن عميق وأسف مرير ممتزجين بمحبة تعبدية لسيدها. أنه عندما يرد الرب نفسا ضلت عنه، تمتزج فيها ضربات الضمير بخضوع القلب لمحبة الرب يسوع، ولا يمكن ان يكون رد النفس صحيحا وكاملا إلا إذا أدرك المؤمن إدراكا عميقا في قرارة نفسه كم كان ضلاله مؤلما لقلب الرب ومهينا لاسمه. ان الرب لا ترضيه توبة سطحية أو شكلية. ان كان العريس له المجد قد تألم في وقوفه على الباب حيث "الطل" "وندى الليل" فهو يريد ان تدرك العروس مقدار ألمه الذي سببته له بانحرافها عنه. هذا ما يشير إليه "المر" كما ان رائحة المر القاطر العطرية تشير أيضا إلى ابتهاج النفس وفرحها برجوعها إلى الرب "رد لي بهجة خلاصك"(مزمور  ٥١ / ١٢).





6 فتحت لحبيبي، لكن حبيبي تحول وعبر . نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني


فتحت لحبيبي، لكن حبيبي تحول وعبر =

هنا نرى آثار محبة العريس في قلب العروس التي تحبه، فقد خارت نفسها عندما سمعت كلامه ولكنها لم تبصر شخصه. لقد تهاونت وتراخت ولم تفتح قلبها له حينما كان واقفا ويقرع متوسلا إليها بان تفتح له، وإذ هو البار القدوس فلم يسعه إلا ان يغادر المشهد لكي يؤثر بذلك على عواطفها المتبلدة، ولكنه لما عبر ومضى لم تكن محبته لها قليلة أو ضعيفة عن ذي قبل، ولئن كانت العروس قد أحست في أعماق قلبها أنه بعيد عنها، فأنه  أحس بذلك أكثر منها كثيرا. 

ان قلب يوسف لم يشتغل بالمحبة لأخوته قدر اشتغاله وقت ان أخفى نفسه عنهم، لكن يوجد من هو أعظم من يوسف "يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد". ليتنا ندرك هذه الحقيقة ونستوعبها جدا فلا نرتاب في محبته مهما تكن الظروف التي تلم بنا، ولا نسيء الظن في نعمته و محبته بل بالحري تزداد ثقتنا فيه.


ان محبة الرب لنا ليست متغيرة بل ثابتة وأبدية، ولكن قد يحدث أحيانا عندما يرى الرب تباطؤ قلوبنا وتهاوننا في الشركة معه وفي التلذذ به وبمحبته  ، و إذا لم نصغ لصوته الرقيق اللطيف صوت النعمة فأنه يحترم اختيارنا و لا يضغط علينا فيبتعد و لكن دون أن يتركنا ، أنه يستعمل وسائل أخرى كهذه لندرك قيمة وغلاوة الشركة معه. أنه يريدنا ان نختبر ان محبته غالية وثمينة ولا يليق ان تقابل من جانبنا بالتهاون والرخاوة. ان محبته لنا لا تضعف حينما يسمح لنا بان نجتاز في مثل هذه التدريبات الأليمة، بل ان هذه التدريبات هي بالحري وليدة محبته التي لن تنتهي. 


نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني =

طلبته فما وجدته = 

تقول النفس البشرية : "طلبته فما وجدته"، مع أنه واقف بجوارها، بل هو في داخلها، ينتظر أن يرى جهادها من أجله، لتقول مع يعقوب: "لن أتركك حتى تباركني".


 دعوته فما أجابني ، مع أنه مشغول بتدبير كل الأمور لأجل خلاصي.

جالت النفس في كل العالم تطلب من تحبه مع أنه كان في داخلها.

لا ريب ان "الرب قريب من الذين يدعونه الذين بالحق. يعمل رضى خايفيه ويسمع تضرعهم فيخلصهم" (مزمور ١٤٥ / ١٨ - ١٩)  فمتى كان القلب في حالة النقاوة وممتلئا من مخافة الرب فأنه يختبر قرب الرب إليه وسماعه طلباته "فأعلموا ان الرب قد ميز تقيه. الرب يسمع عندما أدعوه" (مزمور ٤ / ٣ . أنظر أيوب ٢٢ / ٢١ - ٢٧)  أما إذا انحرف المؤمن عن سبيل القداسة فأنه يحرم نفسه من هذا الامتياز المبارك "ان راعيت أثما في قلبي لا يستمع لي  الرب"(مزمور ٦٦ / ١٨)  وذلك لكي يوقظ القلب المتغافل ليسترد شركته مع الرب. ليتنا نحيا باستمرار حياة القداسة العملية فنختبر قرب الرب إلينا واستجابته لسؤل قلوبنا.ُ


* * *  


قد يقول البعض هنا أن المقصود من القول : "لكن حبيبي تحول وعبر" - إن هذا تأديب من الله لتأخر الإنسان في الاستجابة و لكن هذا غير صحيح لأن هناك فرق بين عروس المسيح و بين الشعب اليهودي الذي سيأتي للمسيا مؤخرا ... عروس المسيح ليست لغتها هذه الكلمات "طلبته فما وجدته دعوته فما أجابني" ، الم يقل يسوع المسيح "اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم. لان كل من يسأل يأخذ. ومن يطلب يجد. ومن يقرع يفتح له. . أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه" (متي ٧ / ٧ - ١١) ... إذا كلمات العروس هنا في هذه الآية تنطبق بصفة خاصة على البقية من الشعب الأرضي مستقبلا. أنها ترينا بطريقة  واضحة ان عروس سفر نشيد الانشاد هنا  ليست هي الكنيسة، وان هذا السفر يدور حول معاملات المسيا مع البقية من شعبه الأرضي (اليهود) و ليس شعيه السماوي (المسيحيين الذين يتبعوه )، وكيف أنه سيكون  لتلك البقية التدريبات تأديبية مؤلمة جزاء على خطاياها وذلك لرفضها ليسوع المسيح بعكس الكنيسة التي قبلته و آمنت به .





7 وجدني الحرس الطائف في المدينة. ضربوني. جرحوني. حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني


ان للرب وسائله المتنوعة لإيقاظ شعبه من غفلتهم ولرد نفوسهم، ففي مرة سابقة، عندما طلبت العروس في الليل وهي على فراشها من تحبه نفسها فلم تجده، وجدها "الحرس الطائف في المدينة" ولكنهم لم يرشدوها إلى حيث كان حبيبها (نشيد الانشاد ٣ / ٣) أما في هذه المرة فقد عاملوها معاملة قاسية، لقد ضربوها.


* * *


قد يبدو غريبا ان حرس المدينة في الداخل وحفظة الأسوار في الخارج الذين كان ينتظر منهم ان يعملوا على سلامة العروس وعلى هدايتها وإرشادها إلى حيث حبيبها هم الذين يسيئون إليها فيضربونها ويجرحونها ويرفعون إزارها عنها، ولكن لا عجب فان قادة الأمة   - و هم رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين - الذين كان ينتظر منهم ان يكونوا أول من يرحب بالمسيح ملكهم ، كانوا هم في مقدمة الذين رفضوه. هؤلاء هم البناؤون الذين كان يجب ان يعرفوا قدر حجر الزاوية  ولكنهم رفضوه. عندما صرخ أعمى  أريحا  "يا يسوع ابن داود ارحمني" انتهره المتقدمون ليسكت (لوقا ١٨ / ٣٥ - ٣٩) وعندما اعترف الرجل الذي كان أعمى منذ ولادته بان الرب يسوع هو الذي فتح عينيه، قاومه الفريسيون وأخرجوه خارج المجمع (يوحنا ١٠) فقد يسمح الرب بمثل هذه التدريبات القاسية لكي تتعمق وتقوى شركتنا معه.


وليس ذلك فقط بل قد يحدث أحيانا بأنه حتى أخوتنا المؤمنون يغالون في غيرتهم على أخوتهم فيجتازون الحد في توبيخهم وفي معاملتهم بشيء من الشدة، ومع أنهم يكونون مخطئين في ذلك ولكن يد الرب تكون متداخلة في الأمر، فإذا ما عاملني أخوتي بشيء من القسوة يجب علي ان أفهم من ذلك بأنه قد يكون هناك انحراف في حياتي واعوجاج في طرقي ، أمور تحتاج إلى تقويم ولا يعرف عنها أخوتي شيئا، وعليّ في مثل هذه الحالة ان أقبل بكل تواضع هذا التدريب كأنه من يد الرب.


* * * 


والآن من هم الحرس الطائف في المدينة الذين ضربوها وجرحوها، وحفظة الأسوار الذين رفعوا إِزَارِها عنها؟


١)  إذ كان المتحدث هنا هو المؤمن في كنيسة العهد الجديد، فإنه باسم الكنيسة يُعاتب جماعة اليهود وقادتها، الذين يمثلون الحرس الطائف في مدينة أورشليم والمسئولين عن حفظ كلمة الله، إذ كان يليق بهم أن يكونوا خدامًا للكلمة وكارزين بالمسيا المخلص، لكنهم يمسكون الكنيسة ويضربونها ويجرحونها، وصاروا يشهرون بها...


٢)  ربما يُشير الحرس الطائف في المدينة إلى خدام الكنيسة، مدينة الله، ويكون حفظة الأسوار هم الكارزين بالكلمة.

وأننا نرى في كلمات العروس (الكنيسة) هنا إشارة واضحة إلى ما ستجوز فيه البقية التقية يومها، فأنها ستعاني أشد الآلام وأقساها ممن كان ينتظر منهم ان يكونوا أكبر عون لها (للكنيسة). أنها ستلاقي اضطهادات ومقاومات من القادة المرتدين وفي مقدمتهم ذلك النبي الكذاب ضد يسوع المسيح. 

ان الرب له المجد سيسمح للأمناء في شعبه بضيق شديد من الداخل ومن الخارج _ من "الحرس الطائف في المدينة" كما من "حفظة الأسوار" وذلك لكي يزداد حنينهم إلى الرب ملكهم ومخلصهم الذي لا بد ان يقصر أيام ضيقتهم ويظهر لهم لخلاصهم.


٣)   ايضا قد يكون الحرس الطائف هم الشياطين: الذين إذ أحسوا أن حبيبها تحوَّل وعبر، ضربوها وجرحوها ورفعوا إزارها عنها أي عَرّوها = فضحوا خطاياها. هنا الله تركها لتتذوق مرارة استهتارها فالله لا يريد تدليل النفس. وهذا درس لكل واحد، فحين لا يكون عريسنا معنا نصبح فريسة سهلة للشياطين التي تضرب وتجرح وتفضح. ولكن نلاحظ أيضًا خطأ آخر لهذه النفس فهي خرجت تبحث عن عريسها مرة أخرى وسط الشوارع بينما هو في داخلها.





8 أحلفكن يا بنات أورشليم إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه بأني مريضة حبا


أحلفكن يا بنات أورشليم ان وجدتن حبيبي ان تخبرنه بأني مريضة حبا =

هنا نرى العروس تحولت عن الحرس الطائف في المدينة وعن حفظة الأسوار الذين لم يظهروا لها أي عطف بل بالحري عاملوها بكل قسوة. لقد تحولت عنهم إلى بنات أورشليم راجية عطفهن عليها ومعونتهن لها. والرب عندما يرى حنين قلوبنا إليه وإلى الشركة معه يهيئ وسائل ووسائط النعمة التي تعيننا على الوصول إلى بغية قلوبنا ،  إليه هو دون سواه "أحلفكن يا بنات أورشليم ان وجدتن حبيبي ان تخبرنه بأني مريضة حبا" ، لقد وصلت العروس إلى الحالة التي صارت فيها مهيأة تماما إلى رد النفس الكامل، فلم يبق أثر للاكتفاء بذاتها وبحالتها، وصارت لا تستطيع ان تجد راحة بدون حبيبها. لقد صار هو أثمن شيء لها بل صار هو كل شيء لها "أني مريضة حبا" فكل شيء سواه يعجز عن إشباع قلبها.


* * *


ان وجدتن حبيبي ان تخبرنه أني مريضة حبا =

لقد نسيت نفسها ونسيت جراحها التي جرحها بها الحرس الطائف في المدينة، فلا تطلب من بنات أورشليم ان يخبرن حبيبها بما قاسته لأجله من جراح وآلام، بل ان يخبرنه بأنها "مريضة حبا" وما أجمل هذا النوع من المرض. أنه دليل صحة الحياة الروحية، وخير لنا ان نكون مرضى حبا للمسيح من ان نكون أصحاء في محبة العالم، فان المريض حبا للمسيح يتمتع بالحياة الروحية بمعناها الصحيح وأما الذين يريدون ان يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ شهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك. لان محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس ٦ / ٩ - ١٠).


وهل هو كثير ان تحصرنا محبة المسيح فتسمو محبتنا له إلى الحد الذي فيه يكون لسان حال المؤمن "أني مريض حبا"؟ ألم يحبنا الرب محبة تسمو فوق هذا الحد إذ أحبنا حتى الموت؟ "بهذا قد عرفنا المحبة ان ذاك وضع نفسه لأجلنا"(رسالة يوحنا الرسول الأولى ٣ / ١٦).


ليتنا ننمو في معرفة قيمة الشركة التي تزيد القلب تعلقا به ومحبة له وتجعل شهادتنا لسيدنا الغائب عنا شهادة حية وجذابة للآخرين.





9 ما حبيبك من حبيب أيتها الجميلة بين النساء ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا


لقد نسيت العروس جراحها التي جرحها بها حرس المدينة فلا تطلب من بنات أورشليم أن يخبرن حبيبها بما قاسته لأجله من جراح وآلام بل أن يخُبرنه بأنها " مريضة حبًا".. إنه مرض جميل، دليل الصحة الروحية.. وخير لنا أن نكون مرضى بحب المسيح من أن نكون أصحاء في محبة العالم.


ان ما أظهرته العروس من محبة لعريسها وشغف به وحنين إلى رؤيته، أيقظ مشاعر بنات أورشليم وأوجد فيهن اهتماما للسؤال عن حبيبها وعما يتميز به عن سواه من صفات وكمال، وبنات أورشليم هؤلاء يشبهن كثيرين من الناس الذين حولنا _ الذين لا يعرفون كثيرا عن المسيح وعن عمله الفدائي المبارك، ولكنهم إذ رأوا فينا _ سواء في حياتنا العملية أو في شهادتنا محبة قلبية صادقة للمسيح وعيشة مكرسة له، ولهجا حارا ومستمرا به وبنعمته الفائقة، فأنهم يدركون أو بالحري يرون فينا صورة المسيح الأدبية "أيتها الجميلة بين النساء" كما ان هذا ينشئ فيهم اهتماما بمعرفة المسيح "ما حبيبك من حبيب؟". فما هو تأثيرنا على الناس الذين حولنا؟ هل يرون فينا "عذراء عفيفة للمسيح؟" وهل يرون في سلوكنا بينهم ما يميزنا عن سوانا؟ لاحظ القول "الجميلة" فليست هي جميلة كغيرها بل "الجميلة" التي انفردت بجمال روحي وأدبي لا يرى مثيل في سواها. هل يرى الغير فينا العواطف التي أستأسرها وامتلكها هذا الحبيب والعريس المبارك الذي لا مثيل له؟ ان العروس تتحدث عنه بكيفية واضحة تبين ان ليس لحبيبها نظير، وهذا ما نبه بنات أورشليم وحفزهم للسؤال عنه "ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا؟".


أيتها الجميلة بين النساء = 

هذا ما سيتحقق في يوم قادم لأورشليم (ابنة صهيون) ، عروس الملك ، العروس الجميلة جدا، فحينما تدخل دائرة البركة الكاملة في عهد المسيا حين يكرمها ويعظمها، تكون لغة الجميع إليها "أيتها الجميلة بين النساء".





10 حبيبي أبيض وأحمر. معلم بين ربوة


أبيض = 

اشارة للاهوته .

اللون الأبيض يشير للطهارة والبر، لذلك قال المسيح "من منكم يبكتني على خطية". قد كانت ملابسه يوم التجلي بيضاء فهي إشارة لمجد اللاهوت. 


أحمر =

اشارة لناسوته (تجسده).


ومع كل مجده قدَّم لي دمه = أحمر على الصليب ليغسلني فأبيض أكثر من الثلج. لأغسل ثيابي وأبيضها في دم الخروف (رؤيا ٧ / ١٤). و هنا اشارة لناسوته حيث الدم المسفوك علي الصليب .


الأبيض + و الاحمر هنا هم اشارة ايضا لسر التناول حيث الخبز الابيض (الذي يمثل جسد المسيح) و الخمر ذو اللون الأحمر (الذي يمثل دم يسوع المسيح المسفوك علي الصليب. 



معلم بين ربوة =

 أي مميز حتى لو كان وسط ملايين شخص.


* * * 


تساءلت بنات أورشليم عن هذا الحبيب " ما حبيبك من حبيب " وإزاء ذلك لم يسع العروس إلا أن تبادر بالجواب وتقدم صورة جميلة لحبيبها من الرأس إلى القدمين. لقد كان هذا الحبيب ماثلًا أمام عينها دائمًا، وكان ملء قلبها وعواطفها، لذا لم تتردد في الجواب، ولم تكن بحاجة إلى فرصة للتأمل، فلم تطلب من بنات أورشليم أن يمهلنها لتجيب على تساؤلهن، بل ابتهجت بالفرصة التي أتاحت لها أن تقدم صورة عن حبيبه.." قدسوا الرب الإله في قلوبكم. مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم" ( رسالة بطرس الرسول الأولى ٣ / ١٥).



حبيبي أبيض وأحمر "

قبل أن تبدأ العروس بذكر أوصاف حبيبها بالتفصيل بدأت بوصف عام عن كماله ، فقالت " حبيبي أبيض وأحمر". فهو القدوس المولود من العذراء (لوقا ١ / ٣٥). وهو الذي في حياته بالجسد " لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر" ( رسالة بطرس الرسول الأولى ٢ / ٢٢). وقد أستطاع أن يتحدى معاصريه من الحسّاد بقوله " من منكم يبكتني " يثبت علىّ " على خطية" (يوحنا ٨ / ٤٦)  فالخطية غريبة عن طبيعته المقدسة. وعندما تكلم عن الشيطان رئيس العالم قال " ليس له فيّ شيء" (يوحنا  ١٤ / ٣٠).


ويقول عنه يوحنا " ليس فيه خطيه" (رسالة يوحنا الرسول الأولى ٣ / ٥) . هناك على جبل التجلي ظهرت طهارة شخصه القدوس الخالية من أي أثر للدنس في ثيابه البيضاء اللامعة " صارت ثيابه تلمع بيضاء جدًا كالثلج، لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيض مثل ذلك" (مرقس ٩ / ٣).


وهو ليس أبيض فقط بل هو أيضًا أحمر. فمع أنه قدوس بلا شر ولا دنس " ولكنه أحب الخطاة والأشرار والدنسين.. " أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه " لقد رآه إشعياء " الآتي من أدوم بثياب حمر من بُصرة. هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته.. المتكلم بالبر العظيم للخلاص" (إشعياء  ٦٣ / ١).


" معلم بين ربوة " (= المرتفع كعلم وراية)


هذا العريس كما يقول عنه إشعياء " القائم راية للشعوب" (إشعياء ١١ / ١٠ ).. لقد أرتفع على الصليب فجذب الشعوب إليه إنه المرتفع كالعلم والراية.


وسيكون المسيا ، ملك إسرائيل ،  في يومه ،  يوم المجد والملك والسيادة على الأرض هو "المعلم بين ربوة" أو بالحري العلم أو الراية المرتفعة "ويكون في ذلك اليوم ان أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدا. . . ويرفع راية للأمم ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض" (أشعياء ١١ / ١٠ و ١٢).





11 رأسه ذهب إبريز. قصصه مسترسلة حالكة كالغراب

رأسه ذهب إبريز =

بعد أن وصفت العروس حبيبها لبنات أورشليم وصفًا عامًا، تأخذ في وصفه بأكثر تفصيل وتدقيق متخذه في ذلك تشابيه بشريه.. ونلاحظ أن العريس حينما أحصى صفات عروسه في (نشيد الانشاد ٤)  أحصى لها سبع صفات للجمال. وهنا تذكر العروس عشر صفات لحبيبها مبتدئه من الرأس..


 رأسه ذهب إبريز (خالص) = 

يشير الذهب في كلمة الله إلى البر الإلهي في علاقته بالمسيح، كما يشير الإبريز (أي الذهب الفائق في نقاوته) إلى لاهوت ربنا ومخلصنا له المجد.


الذهب الخالص يشير إلى لاهوت المسيح الذي فيه " يحل كل ملء اللاهوت جسديًا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي ٢ / ٩). لقد أقامه الآب رأسًا للكنيسة " الذي منه كل الجسد بمفاصل ورُبط متوازرًا ومقترنًا ينمو نموًا من الله" (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي ٢ / ١٩)..


 وإذا كان هو الرأس فهو وحده كابن الله يقدر أن يدخل بالجسد كله إلى السماء. وإذا كان الرأس سماويًا فالجسد لا يقدر أن يعيش إلا على مستوى سماوي، مادام متحدًا بالرأس.. هذا هو سرّ حب العروس لعريسها، أنه يدخل بها إلى السموات أي إلى أحضان أبيه، خلال اتحادها به.


 قصصه مسترسلة حالكة كالغراب = 

وإذا كان الذهب الإبريز يشير إلى لاهوت المسيح، فإن القصص المسترسلة إشارة إلى ناسوته القدوس المتحد به اتحادًا فائقًا.. 

شعره هو كنيسته وهي سوداء لا تشيخ فهو يجدد كالنسر شبابها (مزمور ١٠٣ / ٥). والكنيسة مشبهة بالشعر أيضًا لأنه لن تسقط شعرة إلا بإذن منه.


إن المؤمنين ، به يعيشون. لا يشيخون. ولذلك لا تظهر فيه شعرة بيضاء بل كله أسود حالك كالغراب. إن المؤمن لا يشيخ بل يتجدد مثل النسر شبابه. هذا من عمل الروح القدس الذي على أساسه تقوم الشركة بين الأعضاء والرأس، فتبقى الأعضاء في كمال قوتها من خلال الرأس الذي لا يضعف أبدًا.


هذا هو عمل الروح القدس، الذي يهب الشركة بين الأعضاء والرأس، فتبقى الأعضاء في كمال قوتها خلال الرأس الذي لا يضعف مطلقًا.


كما أن السيد المسيح هو "هو أمس واليوم وإلى الأبد" (رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ١٣ / ٨)، فإن كنيسته تعبر خلاله فوق حدود الزمن فلا تصيبها شيخوخة ولا تقوى عليها أحداث أرضية.!





12 عيناه كالحمام على مجاري المياه، مغسولتان باللبن، جالستان في وقبيهما


عيناه كالحمام على مجاري المياه =

عيناه كالحمام = 

أي ينظر بوداعة علينا كمؤمنين أما أعداء كنيسته فنظرته لهم مثل لهيب النار. وعينه علينا طول السنة لا ينعس ولا ينام. 


عيناه على مجاري المياه = 

المياه تشير للروح القدس. إذًا هو عيناه على هذه المجاري فهو مهتم أن نولد من الماء والروح وأن نمتلئ بالروح. فالله مهتم بأن الروح القدس يكمل كنيسته، عروسه، ويعدها للسماء.


* * *

ليس مثل العين في التعبيرعما يسكنه الإنسان في الباطن" أنها في صمتها تتكلم بلغة أكثر وضوحا من كلام الشفتين، عندما نظر الرب إلى الجالسين حوله (مرقس ٣ / ٣٤) كم كانت تحمل تلك النظرة من معاني عميقة! لقد كانت معبرة عما في قلبه من محبة وسرور بأولئك الذين يصنعون مشيئة أبيه .


ولكن ما أكبر الفرق بين صورة العينين كما تصفهما العروس وبين عينيه اللتين رآهما يوحنا في جزيرة بطمس "عيناه كلهيب نار" (رؤيا يوحنا ١ / ١٤) ففي هذه الصورة الأخيرة يرى كمن يقضي في وسط الكنائس، فنراه في طهارته الفائقة يعمل بسلطانه القضائي لإدانة كل ما لا يتفق مع الحق والقداسة، وترى عيناه بهذه الصورة بسبب التهاون قد اختلفت عن صورة عينيه اللتان لهما جمال وطهارة "الحمام"، وهذا نتيجة لما وصلت إليه المسيحية بصفة عامة،. 


عينا الحبيب المستقرتان على عروسه هنا نراهما تفيضان عطفا وحنانا على حبيبته، لأنها تعرفه ولا تعرف لها رأسا وسيدا سواه، ولذا فهي تدين له بالطاعة المحبة، وتتغنى بجماله وبحلاوة عينيه. لقد تيقنت أنها غرض محبته، وما أسعد هذه الحالة.


* * *

مغسولتان باللبن =

لقد رأت العروس عيني حبيبها في صورة من اللطف والوداعة "كالحمام على مجاري المياه" كما رأت فيهما أجمل صورة للطهارة والنقاوة "مغسولتان باللبن" فعواطف المحبة واللطف والحنان تشع من هاتين العينين، ولكنهما في الوقت نفسه تفيضان طهارة وقداسة، وهذه الصفات مجتمعة معا، اللطف والحنان مع الطهارة والقداسة، هي ما يريد ان تتصف بها عروسه وحبيبته.


في يوحنا ١٣ وأفسس ٥ نرى تقدير الرب لقديسيه ومحبته لكنيسته، فهو في محبته التي أحب بها خاصته يغسل أقدامهم لكي يكونوا طاهرين تماما. نعم لقد "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب" (أفسس ٥) ومن الواضح ان الباعث له على الغسل والتطهير هو محبته، فهو له المجد يعمل بوسائله المقدسة والمطهرة لكي يجعل خاصته في الحالة التي تتفق مع غرض محبته. ان عيني الحبيب تتطلعان إلى عروسه بمحبة كاملة لا تريد ان ترى فيها شيئا من العيب والدنس. أفلا نحرص على ان نكون في هذه الحالة التي ترضيه وتسر قلبه؟ أنه عندما يكون الرب أمامنا وملء أفئدتنا تمتلئ قلوبنا وعواطفنا محبة له وتعلقا به، ولا توجد قوة للتطهير والتنقية أعظم من هذه، وأي شيء يمكن ان يكون أطهر من قلب صار المسيح غرضه الوحيد؟ والعروس إذ تفيض عواطفها محبة وتقديرا لعريسها تبرهن على طهارة ونقاوة تلك العواطف، ولكنها لا تلفت الأنظار إلى ذاتها بل إليه ، إلى حبيبها، أما إذا انحصرت مشغوليتنا بذواتنا فأننا نسير في طريق الانحدار، ولا نجد في المشغولية بالذات علاجا لها، ولكن متى كان المسيح ، المسيح وحده ملء عيوننا وقلوبنا فان ذلك يقودنا إلى الحكم على الذات وبالتالي التحول عن المشغولية بالذات التي دينت في الصليب، وهذا هو السبيل الوحيد لسمو الحياة الروحية.



جالستان في وقبيهما =

أما القول عن عينيه إنهما جالستان في وقبيهما أي مستقرتان في مكانهما، فالمعنى أن نظرته لخاصته ثابتة وليس فيها تغيير، ولا يمكن أن يتغير قلبه من نحوهم وتتحول نظرات محبته عنهم. إنهم في يده ولا يستطيع أحد أن يخطفهم منه.

 خاصته هم عطية الآب له، ولا يمكن ان يتغير قلبه من نحوهم أو تتحول نظرات محبته عنهم. أنهم في يده ولا يستطيع أحد ان يخطفهم منه، وأخيرا سيكونون معه في المجد حيث هو، وإذا تأملنا مليا في علاقة الرب بخاصته كما هي مبينة في إنجيل يوحنا (اصحاح / فصل ١٣ إلى ١٧)  نفهم جيدا مغزى قول العروس عن عيني حبيبها بأنهما "جالستان في وقبيهما".





13 خداه كخميلة الطيب وأتلام رياحين ذكية. شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا


خداه كخميلة الطيب وأتلام رياحين ذكية =

خداه كخميله الطيب (الأشجار العطرية الكثيرة) وأتلام (باقات) رياحين ذكية. شفتاه سوسن تقطران مرًا مائعًا



كخميلة  الطيب = 

الخميلة هي مجموعة أشجار لها رائحة طيبة من كل نوع. 


وأتلام رياحين ذكية = 

أي باقات زهور، وقد تشير لرائحة المسيح التي تفوح من كنيسته.


خدّا المسيح اللذان يشيران إلى طلعته البهية في آلامه قد تعرضا للهزء والعار كما يقول إشعياء "بذلت ظهري للضاربين وخديّ للناتِفين. وجهي لم أستر عن العار والحّري" (إشعياء ٥٠ / ٦) .. هذا الوجه الذي بصق عليه الأشرار (متي  ٢٧ / ٣)، تراه الكنيسة والنفس البشرية يحمل علامات الحب الباذل فتراه كخميلة طيب وباقات رياحين ذكية، تشتمها النفس رائحة حياة.


ان الأعداد التي تشير إلى ضرب سيدنا وربنا يسوع على خده ترينا ان خدي العريس يرسمان أمامنا صورة رمزية لاتضاعه بالنعمة ، هذا الأتضاع الذي عرضه إلى قسوة الإنسان واحتقاره له، فقد تنازل له المجد إلى الحد الذي جعله عرضة  لاستهزاء البشر واحتقارهم له "بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق" (أشعياء ٥٠ / ٦) وهل يوجد تعبير أكثر تأثيرا مما جاء في ميخا ٥ ؟ فهناك نقرأ عنه له المجد بأنه "مدبر إسرائيل. الذي مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" ، فقد أتى من مجده الإلهي الأزلي ليولد كطفل في بيت لحم ويا له من تنازل عجيب! ثم من جهة المستقبل فأنه "يقف ويرعى (قطيعه) . لقد تنازل بنعمة غنية وصار قريبا من البشر حتى تجاسر الإنسان الحقير على لطمه وضربه على خده "يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده" ،  ألم تتم هذه النبوة حرفيا ؟ نعم فان خديه الطاهرين قد لطما فعلا، كما غطتهما قبلات يهوذا الغاشمة (متي ٢٦ / ٦٧، مرقس ١٤ / ٦٥ ، لوقا ٢٢ / ٦٤ )  ،  لقد سلم المسيح نفسه لمثل هذه المعاملات الغاشمة من يد البشر.


 * * *  


ويا له من جمال فاتن تراه عين الإيمان في ربنا المبارك! فان تنازله بالنعمة الذي كان ولا يزال موضوع احتقار البشر وكراهيتهم له هو بذاته الذي جعله جذابا ومحببا لقلب العروس. نعم ان اتضاعه في حياته وفي موته فوق الصليب الذي جعله مهانا ومرذولا من الناس يرى في عيون قديسيه ومحبيه في جمال فائق، فقد كان المسيح الحجر الكريم الذي رفضه الناس، ولكن قيمته الغالية والكريمة يدركها المؤمنون به، ويجب أنهم ينمون في إدراكها أكثر فأكثر. حقا أنه أتضاع ربنا المبارك وتنازله بالنعمة ما يحبب قلوبنا فيه ويخضعها لإرادته ، وأنه وان كان المسيح ممجدا الآن في الأعالي، ولكنه لا يزال إلى الآن في زمان رفضه من هذا العالم. 

المبشر ، علي مثال سيده يسوع المسيح ، على أتم استعداد ان يلطموه . 


شفتاه سوسن (الزنبق) تقطران مرا مائعا =

شفتاه سوسن= 

تنسكب منهما النعمة مثلما تنسكب نعمة الجمال من منظر السوسن. (يوحنا ٧ / ٤٦) فكلام المسيح لم يكن له مثيل وسط البشر.


يقطران مرًا = 

اشارة لصليبه الذي فاحت منه رائحة محبته الحلوة فنشتهي من محبتنا أن نشترك معه في صليبه ثم في مجده.


عن شفتي العريس اللذين تشبههما العروس بالسوسن (الزنبق)، فإن السوسن يشير إلى المجد الملوكي " تأملوا زنابق الحقل (السوسن) كيف تنمو لا تتعب ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها" (متي ٦ / ٢٨ - ٢٩). فالشفتان السوسن تعلنان تعاليم الناموس الملوكي " فإن كنتم تكملون الناموس الملوكي حسب الكتاب تحب قريبك كنفسك، فحسنًا تفعلون" ..


وهنا نرى وجها آخر لاتضاع ربنا يسوع، فان كان اتضاعه أظهر فكر البشر من جهته، فأنه أظهر أيضا غنى النعمة التي كانت في قلب الله من نحو الإنسان. هذا ما نراه في هذا الوصف الذي به تصف العروس حبيبها "شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا" ويشير السوسن إلى النعمة الجذابة التي في المسيح يسوع، وقد أشار هو له المجد إلى ان في السوسن (أي الزنابق) شيئا يفوق كل مجد سليمان. 


كم كانت تعاليم المسيح مجيدة، ما أحلى الكلمات التي كانت تقطر من شفتيه "لم يتكلم إنسان مثل هذا قط" (يوحنا ٧ / ٤٦).


ان النفس التي تحب المسيح تعتز بكل كلمة من كلماته لأنها أغلى شيء لديها "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى" لأننا لا نستطيع ان نعرفه حق المعرفة إلا بواسطة كلمته، فقد قال له المجد "أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به" (يوحنا ٨ / ٢٥) وإذا أردنا ان ننمو في معرفته فعلينا ان نتأمل بكل انتباه في الأناجيل وننعم النظر في كل قطرة من "المر المائع" المنسكب من شفتيه، ولنطل التأمل في كل عمل من أعماله، لان كل ما كانه المسيح وقتئذ هو كذلك الآن وسيكون كذلك إلى الأبد، وفي دراسة الأناجيل نكون قريبين منه كما كان لخاصته في أيام جسده، ونستطيع ان نعرفه أكثر.  





14 يداه حلقتان من ذهب، مرصعتان بالزبرجد. بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق


يداه حلقتان من ذهب، مرصعتان بالزبرجد =

يداه حلقتان = 

الحلقة بلا بداية ولا نهاية، ومن ثمَّ فعطاياه لا حدود لها. 

تُشير "الحلقة" أو "الدائرة" إلى الأبدية، لأن ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية.


يداه حلقتان  =

إشارة لأن عطاياه سماوية. وعطاياه بغني قادرتان أن تشبعنا روحيًا وجسديًا. 

يداه أبديتان، تشبعان النفس والجسد معًا إلى الأبد.


يداه حلقتان من ذهب =

يديه كونهما من ذهب فهنا إشارة إلى سمتها السماوية... فهو يمسك بعروسه ويدخل يدها في يده السماوية ليسكب عمله فيها فتحمل قوته وإمكانياته السماوية، لتعبر معه إلى السماء. . إن حلقتي الذهب تمسكان بمحبوبته وتحميانها بطريقة إلهية..


مرصعتان بالزبرجد =

الزبرجد حجر كريم لونه أخضر. والخضرة رمز للحياة فعطاياه محيية.

الزبرجد قد ورد مرارًا في العهد القديم (حزقيال ١ / ١٦ : " منظر البكرات وصنعتها كمنظر الزبرجد") (دا نيال ١٠ / ٦ :  "وجسمه كالزبرجد") ، ليُشير إلى قوة التأسيس... إذ "أعمال يديه أمانة وحق"، تؤسسان عروسه على الإيمان الراسخ والحق.



بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق = 

بطنه عاج أبيض =

لنلاحظ أن العاج على العكس من الجواهر التي في أصلها ومنشأها لا صلة لها بالحياة. والعاج يؤخذ من سن الفيل، ومن ثم فهو نتاج الألم. ولذا فالعاج يشير إلى محبة المسيح التي ظهرت في آلامه لأجلنا حتى الموت.

بطنه أو أحشاؤه تشير لمشاعره وأحاسيسه وهذه كلها حب وحنان (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي ١ / ٨ + ٢ / ١). وإلى أي حد وصلت هذه المشاعر؟ وصلت للموت عنا ولذلك شبهت عواطفه بالعاج الأبيض، فالعاج ينزع من الفيل بعد موته، وهكذا ظهرت محبة المسيح في موته "ليس حب أعظم من هذا أن يبذل أحد نفسه.


مغلف بالياقوت الأزرق (حجر من الاحجار الكريمة)  = 

كون أحشاؤه مغلفة بالياقوت الأزرق فذلك يشير إلى النقاوة السماوية والياقوت هو لون سماوي، إنما ليعلن أن حبه ليس أرضيًا مؤقتًا بل سماوي أبدي ، أي أن حبه له سمة سماوية، وأهدافه سماوية ويرفعنا للسماويات. 





15 ساقاه عمودا رخام، مؤسستان على قاعدتين من إبريز. طلعته كلبنان. فتى كالأرز


ساقاه عمودا رخام =

 أي ساقاه ثابتتان .  كل من يتحد بالمسيح تكون له القدرة على السير نحو السماء بثبات بل ويقبل الصليب بثبات.

كون ساقيه عمودًا رخام إشارة واضحة إلى ثبات واستقرار كل شيء مرتبط بالمسيح. فقد جعل الله كل شيء مرتبط به متميزًا بالثبات وعدم التزعزع، على عكس أمور البشر.. 


والرخام = 

يشير إلى اللون الأبيض والنقي.. واللون الأبيض يلازم الأوصاف التي تصف بها العروس حبيبها "حبيبي أبيض -"عيناه مغسولتان باللبن"- السوسن ناصع البياض ثم العاج الأبيض وعمودًا الرخام... فوق جبل التجلي كان " لباسه مبيضًا لامعًا . كل ما للمسيح يتميز بهذا الوصف وسيظهر ذلك حتى في "العرش العظيم الأبيض".


ساقاه عمودًا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز = 

على قاعدتين من إبريز (الذهب الخالص) = 

الذهب أو الإبريز (الذهب الخالص) يُشيرا إلى الطبيعة السماوية، وكأن من يتحد بالعريس إنما يقدر أن يسير به في حركة مستمرة نحو السماء، فالعريس يسوع المسيح دُكّ تحت قدميه كل قوى إبليس، محطمًا الموت وقاهرًا الخطية. وهو أسس مملكته بالخلاص الذي تم على الصليب، وكان عمله قوياً وقوته راجعة لأن عمله مؤسس على قاعدتين إبريز= وإذا فهمنا من الآية ١١ أن الإبريز (الذهب) يشير للاهوت ، فالخلاص مبنى على أن (المسيح) لاهوته (الإبريز) لم يفارق ناسوته فيكون فداءه لا نهائياً يغفر خطايا الجميع. 


طلعته كلبنان. فتى كالأرز =

لبنان منطقة سياحية جميلة يلجأ إليها بعض المتزوجين حديثًا لبدء حياتهم الزوجية في جو جميل، هكذا فإن وجه الرب يسوع بما يحمله من بشاشة وحنان يفرح النفس التي تُريد أن تعيش في الحياة الزوجية الروحية مع الكلمة الإلهي.

أما سرّ جماله فيكمن في كونه " فَتى كَالأَرْزِ"، المعروف بطوله الشامخ مع استقامته ورائحته الذكية... هكذا يظهر السيد المسيح للنفس كالفتى الذي لا يشيخ قط.


 وقوله فتى إشارة لأن المسيح شارك البشرية كل مراحلها ما عدا الشيخوخة، فهو كان طفل وصبي فشاب فرجل، ولكنه لم يشيخ. حتى لا تحمل كنيسته صورة الشيخوخة (مزمور ١٠٣ / ٥). فالجسد قد يضعف ويشيخ لكن الروح لا تشيخ أبداً لأولاد الله ولكنيسة المسيح. 


وعلو الأرز ووجوده على الجبل العالى إشارة لأنه سماوي. الشجرة موجودة على الأرض ومرتفعة للسماء، فالمسيح ربط كنيسته (جسده) التي على الأرض بكنيسته التي في السماء. هو صار رأسا للسمائيين والأرضيين "لتدبير ملء الازمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض، في ذاك" (أفسس ١ / ١٠).  قال المرنم عن الهيكل أنه "موطئ قدمى الله" (مزمور ١٣٢ / ٧). فإذا فهمنا أن الهيكل يشير لهيكل جسد المسيح الذي بدأ يكونه بتجسده ووجوده بجسده على الأرض. لكن الآن فإن الكنيسة - جسده الواحد - هي كنيسة مجاهدة ما زالت على الأرض، وكنيسة منتصرة في السماء. وهو رأس الكنيسة في السماء كسابق لكنيسته





16 حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي، وهذا خليلي، يا بنات أورشليم


حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي، وهذا خليلي، يا بنات أورشليم = 

هذا الوصف هو العاشر في صفات العريس، وهو يشبه ما جاء في (نشيد الانشاد ٢ / ٣) " تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي".. يقول المرتل " إن كلماتك حلوة في حلقي، أفضل من العسل والشهد في فمي" (مزمور ١١٩ / ١٠٣ ).. الحلق هو الذي يخرج الكلمات.. وكلمات الرب روح وحياة " من أكلني عاد إليّ جائعًا، ومن شربني ازداد بي عطشًا" (يشوع ابن سيراخ )..


إن من أحب الرب وأحب كلامه يشتاق إلى الجلوس تحت قدميه على نحو ما فعلت مريم أخت مرثا ولعازر ولسان حاله يقول " لكل كمال رأيت منتهى. أما وصاياك فواسعة جدًا" .


كله مشتهيات = 

أخيرًا إذ تشعر العروس بعجز لغتها عن وصف عريسها قالت "كله مشتهيات".

فإذا ما استطعنا بنعمة الله وبتعليم الروح القدس ان ندرك ونقدر جمال وأمجاد المسيح كما هي معلنة في وصف العروس التشبيهي هذا، فأننا بكل يقين نستطيع ان نقول معها "كله مشتهيات" فكل صفة من صفاته حلوة وتشتهيها النفس المتجددة وتجد فيها لذتها، فليست تنقصه صفة واحدة من صفات الكمال، وكان العروس شعرت بعجزها عن ان تلم بكل أوصافه أو تدرك كل "غنى المسيح الذي لا يستقصى" وكان لسان حالها : فيه تحل كل المشتهيات. كل ما نرغب فيه نجده هناك كل جمال أنما في شخصه المعبود. فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا، كما فيه تحل كل فضائل الناسوت الذي بلا عيب. أنه جميل في اتضاعه، وفي ارتفاعه "كله مشتهيات".


هذا حبيبي، وهذا خليلي، يا بنات أورشليم = 

"هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم". هذه هي أول مرة تستعمل فيها العروس كلمة "خليلي" أي صديقي. ان هذه الكلمة تعني صديقي القريب مني جدا، لقد استطاعت قبلا ان تدعوه "حبيبي" حتى وهي في حالة فتورها وتراخيها ولكنها لم تستطع وقتئذ ان تقول عنه أنه خليلها ، أي صديقها القريب منها، أما الآن فقد صار قلبها متعلقا به، وبالتالي شعرت بقربها منه وقربه إليها لقد ردت نفسها وعواطفها إليه حتى أنه لما سألتها بنات أورشليم عنه لم تتردد أو تتوانى في وصفه بهذه الأوصاف الجميلة، ولا يمكن ان مؤمنا يتأمل جيدا في هذه الصفات المباركة (في الأعداد ١٠ إلى ١٦ من هذا الإصحاح) دون ان تنهض أحاسيسه الروحية فيتمتع برد النفس ردا كاملا وصحيحا إلى الحبيب. لست أقصد مجرد قراءة هذه الأعداد ولكن التأمل العميق فيها بكل القلب، فإذا ما شعرنا أننا لسنا متمتعين كما ينبغي بالشركة القلبية مع هذا الحبيب وبقربه منا فلا يليق ان نقنع أو نرضى بهذه الحالة لحظة واحدة بل يجب ان نتفكر فيه ونتأمل في كمالاته ونتفرس في جماله بروح الصلاة لنختبر من جديد حلاوة هذا الصديق "المحب الألزق من الأخ".


وما أحلى قول العروس "حبيبي . . . وخليلي"  هو بشخصه لي لقد كانت العروس تجد لذة في التأمل في صفاته، لكنها تسر أكثر ان تقول بلسان الحال : هذا الذي له كل هذه الصفات هو لي. ان العروش والأكاليل والأمجاد كلها له، وهي للمؤمن في شخصه الكريم، على أنها جميعا ليست هي شخصه، وما قيمتها بدونه؟ ان العواطف المتجددة لا ترى فيها شيئا ذا قيمة بالانفصال عنه تبارك اسمه.






تم عمل هذا الموقع بواسطة